للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[توبة القعنبي]

والقعنبي المحدث المشهور، كانت هدايته على يد شعبة بن الحجاج، قال أحد أولاده: كان أبي يشرب النبيذ، ويصاحب الأحداث، فدعاهم يوماً وقد قعد على الباب ينتظرهم -ينتظر أصحاب السوء وقرناء السوء- فمر شعبة على حماره، وكان شعبة هو أمير المؤمنين في الحديث في عصره، وطلاب الحديث يسرعون وراء شعبة لكتابة الحديث، فقال: من هذا؟ قيل: شعبة، وقال: وأي شيء شعبة؟ لماذا هذا التجمهر حول هذا الرجل؟ فقالوا: محدث، فقام إليه وعليه إزار أحمر، ومعلوم أن لبس الأحمر الخالص للرجال منهيٌ عنه، لكنه كان شاباً ماجناً، لكن لما سمعهم يقولون محدث، جرى وراءه، فقال له: حدثني، فقال له شعبة وقد رأى هيئته ولباسه: ما أنت من أصحاب الحديث فأحدثك.

العلماء كانوا ينتقون الأشخاص الذين يضعون عندهم العلم، ما كانوا يضعون العلم عند فاسق يستغله في معصية الله، أو يخدع به الناس، بل يرتجون الأتقياء لجعل هذه الأحاديث بأسانيدها، يعني: أسانيد الحديث في ذلك الزمن كانت نوع كرامة، أن يتصل اسم الشخص بسندٍ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فكانوا لا يضعونها عند الفسقة، فيكونون كمن يقلد الخنازير عقود الدرر واللآلئ.

فقال له: ما أنت من أصحاب الحديث لأحدثك، فأشهر سكينة -هذا الشاب- وقال: تحدثني، أو أجرحك، فقال له: حدثنا منصور عن ربعي عن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا لم تستح، فاصنع ما شئت) فحدثه ونزل عند رغبته، لكن حدثه بحديث فيه توبيخ وتقريع له (إذا لم تستح، فاصنع ما شئت) وهذا وعيد، مثل قوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت:٤٠] والله سبحانه وتعالى سيجازيكم ويحاسبكم، فرمى سكينته ورجع إلى منزله، وقد أثر فيه هذا الحديث وهذه الموعظة من المحدث، ورجع إلى منزله، فقام إلى جميع ما كان عنده من الشراب، فأراقه، وقال لأمه: الساعة أصحابي يجيئون، فأدخليهم وقدمي الطعام إليهم، فإذا أكلوا، فأخبريهم بما صنعت بالشراب.

أخبريهم أن حالي قد تغير.

وهذه مسألة مهمة: ينبغي أن يعرف قرناء السوء أن حال صاحبهم قد تغير، ينبغي أن يعرفوا أن هذا الشخص لا طريق له معهم، ينبغي على التائب أن ييئس قرناء السوء الذين كانوا معه، يجعلهم يصابون باليأس منه؛ لأن بقاء الأمر معلقاً وهو يخفي حاله الجديد خطيرٌ جداً عليه؛ لأنهم سيعاودون الكرة، ويحاولون إعادته مرة أخرى إلى ما كان عليه، لكن إذا كان من البداية صار التصريح بالتغيير، لم يكن هذا مؤثراً فيه، ومضى من وقته إلى المدينة، فلزم مالك بن أنس، فأثر عنه، ثم رجع إلى البصرة وقد مات شعبة، فما سمع منه غير هذا الحديث.