والأمر الثاني -أيها الأخوة- هو قضية طلب العلم؛ وطلب العلم من الأمور المهمة، التي ينبغي أن يستغل الإنسان وقته فيها، لذلك يقول عمر رضي الله عنه:[تفقهوا قبل أن تسودوا] ما معنى قبل أن تسودوا؟ يعني: قبل أن تصبح إنساناً ذا شأن، وصاحب مسئوليات وصاحب منصب، وقبل أن تصبح سيداً متصدراً للناس، تفقه فإنك غداً عندما تصبح منشغلاً بذلك المنصب أو بتلك السيادة، ربما لا تجد وقتاً كافياً لطلب العلم، وأيضاً، فإن السيادة تحتاج إلى فقه، وإلا فكيف يقود الناس إنسانٌ جاهل، لذلك يقول عمر:[تفقهوا قبل أن تسودوا] ولذلك كان علماؤنا رحمهم الله، لا يضيعون وقتاً بغير فائدة، فترى وقتهم مقسوماً بين القراءة والتصنيف، وبين الإفتاء والقضاء، وبين الحفظ والتدبر والعبادة، وإنكار المنكر، والجهاد في سبيل الله، والتدريس، حتى أن بعضهم كان لهم ثلاثة عشر درساً في اليوم، ويقرأ عليهم أحياناً في الطريق، وهم يمشون ويسألون العلماء في الطريق، وربما إذا دخل بعضهم الخلاء أمر القارئ أن يرفع صوته، حتى يستغل وقته وهو في الخلاء، فيسمع العلم، وربما فكروا بالمسألة وعلموها أو تعلموها وهم في النزع الأخير من حياتهم على فراش الموت، وأكل بعضهم الطعام نيئاً لعدم وجود الوقت للطبخ وكان بعضهم يختصر الوجبات، فيقتصر على وجبة في اليوم، وينتقون الأكلات السهلة التحضير، وسهلة المضغ ليوفروا وقتاً لطلب العلم، وإذا انشغل أحدهم ببري القلم وهو يكتب انطلق لسانه بذكر الله أو مراجعة المسائل حتى لا يتوقف عن عمل مفيد، لكن انظر الآن! إذا كان أحدنا يكتب ويستغل وقته، وأراد أن يبري القلم يتأمل في البراية، ويطالع في المرايا التي خلف المبراة.
وكانوا لا ينامون إلا قليلاً؛ حتى ربما خفق رأس بعضهم في كتابه، هكذا كانوا حريصين جداً على طلب العلم، ومن المشاكل الكبرى أن ترى طالب العلم يبرز للناس، ويتصدر قبل أن يتأسس علمياً فينزلق في مزالق، ويقع في مطبات وحفر شيطانية؛ من إفتاء الناس بغير علم -مثلاً- وسيأفل سريعاً ويزوى؛ لأنه تصدر وليس عنده أساس علمي قوي، يعرف كلمتين، فإذا انتهت الكلمتان التي يعرفها انفض الناس من حوله، بعض الخطباء والوعاظ وطلبة العلم يبرز للناس ولم يتأسس بعد، عنده حصيلة قليلة، فإذا ألقى كذا خطبة، أو كذا درساً انتهى الذي عنده، حتى لو كان -مثلاً- مع رفقاء له يعلمهم، فإذا علم فلاناً وفلاناً وفلاناً شهراً أو شهرين أو سنة أو سنتين انتهت الحصيلة، وصاروا مثله في النهاية؛ لأنه لم يستغل وقته في الطلب، والمسلم الجيد هو الذي لا يزال الناس يجدون عنده ما يحتاجون إليه.
ولذلك يجب علينا أن ننظر ونعتبر من بعض العلماء الذين بارك الله في أوقاتهم، سبحان الله -مثلاً- أنت إذا نظرت في حال شيخنا عبد العزيز بن باز حفظه الله، تجد من حاله عجباً، طبعاً هذا الرجل أسس نفسه على العلم منذُ الصغر، أسس نفسه على الأصول، يعني: على القرآن ودواوين السنة، عنده أصول أسس نفسه عليها، وهو لا يزال يراجعها، ولذلك ترى حلقات الشيخ أكثرها قراءة وهو يسمع، يعني: يقرأ عليه أكثر مما يعلق، فهو لا يزال يراجع الأصول، ولذلك عندما تأتي النازلة ليفتي فيها الشيخ، فعنده الأصول وهي قد اختمرت في ذهنه بمرور السنين وتواليها، آيات وأحاديث كثيرة جداً اختمرت في ذهنه، تأسست نفسه في العلم، فلو جاءت نازلة أفتى فيها، لكن لو جاء طالب علم، وجاءت نازلة، سيبحث في الكتب والدواوين وأقوال العلماء، والأشباه والنظائر، ويرى الأمور، ثم بعد ذلك قد تكون فتواه صحيحة وقد تكون عوجاء، ولذلك ترى الآن العلماء الحقيقيين وإن كانوا قلة وندرة، إلا أن عندهم القدرة على الكلام في مستجدات العصر بعلم شرعي، وإلا فهناك أناس يفتون بجهل في مستجدات العصر، ولذلك مثل الشيخ حفظه الله الذي لديه خلفية قوية في أصول الإسلام، لا يحتاج إلى أن يفتش وينقب دائماً في الكتب ويبحث مثل طالب العلم، فإنه إذا أراد أن يفتي في مسألة يبحث فيها! وأيضاً -أيها الإخوة- الداعية إلى الله مهم جداً أن يؤسس نفسه، قبل أن تتراكم عليه المسئوليات -وهذه القاعدة مهمة- قبل أن تتراكم عليه المسئوليات الدعوية والتربوية، فإن الإنسان إذا كان يسير في طريق الدعوة والتربية فإن مسئولياته في ازدياد من يومٍ إلى آخر، وإذا كان مخلصاً عاملاً نشيطاً، فإن مسئولياته ستزداد يوماً بعد يوم، وإن رعيته التربوية ستكبر وتتضخم، فإذا لم يكن عنده أساسٌ قوي، فكيف سيقوم بمواجهة هذه المسئوليات والاضطلاع بها؟ ولذلك تجد بعض المشايخ الكبار، قد لا يجد وقتاً للقراءة أحياناً، لأنه يتنقل من مكان إلى مكان، يلقي محاضرة هنا وهناك، ودرساً هنا وهناك، ويتصل الناس به ويستفتونه.
الشيخ ابن عثيمين قال كلمة جميلة، أقصد في جمال المدلول عندما كان يدرس في الحرم في رمضان، وكانت له حلقة بعد الفجر وحلقة بعد المغرب، وكان الناس يسألونه بعد الصلوات وبعد العصر، وكانت له غرفة مخصصة يتصل عليه الناس قال: والله إني أحياناً لا أجد وقتاً أقرأ فيه القرآن، فأحياناً يكون الإفتاء أفضل من تلاوة القرآن، وذلك بسبب حاجة الناس، خصوصاً للذي لم يهجره، ومن هنا -أيها الإخوة- كان لابد للدعاة الصادقين من إيجاد خطة لتفريغ الدعاة إلى الله، ويجب على أهل الغنى والثراء أن ينظروا في المشاريع الإسلامية، ويحاولوا أن يشاركوا فيها؛ لتفريغ الدعاة إلى الله لكي يتجولوا في بلاد الكفار، ليلقوا الدروس والمحاضرات، وتفريغهم لهذا المجال ولهذا العمل أفضل من أن يعمل أحدهم في شركة أو في مؤسسة يستهلك وقته فيها، وترتيب الرواتب لهم من أعظم أبواب الأجر؛ لأنه سيستطيع أن يعطي، ولذلك كان العلماء في الماضي لهم رواتب من بيت مال المسلمين، العالم ليس عنده عمل إلا طلب العلم، والتعليم، وهذا التفرغ هو الذي أنتج العلماء في الماضي.