[الأحاديث والآثار في بيان أهمية العمل بالعلم]
بعد هذا شرع الخطيب رحمه الله في إيراد الأحاديث والآثار التي جمعها عن النبي صلى الله عليه وسلم، والصحابة والتابعين والسلف في هذه المسألة، وهي قضية العمل بالعلم، فصدَّره بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزولا قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه، وعن علمه ماذا عمل به، وعن ماله من أين أكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه) وهذا حديثٌ صحيح أخرجه المصنفون من أهل العلم في كتبهم، وبعض الأحاديث التي ساقها الخطيب رحمه الله في هذا الكتاب ضعيفة، وبعضها أكثر من ضعيفة، ولكن كما ذكر العلامة الألباني رحمه الله، في تعليقه على هذه الرسالة: لعل عُذر الخطيب رحمه الله في ذلك أن العالم يسوق الإسناد، والمُحدِّث إذا ساق بالإسناد فإنه يكون قد حمّلك أنت أيها القارئ المسئولية، قال لك: هذا إسنادي فلان عن فلان عن فلان، وأنت تتحمل مسئولية البحث في صحة هذا الحديث.
وكذلك فإن بعض الطرق التي ساقها الخطيب ضعيفة، لكن الحديث له طرق أخرى صحيحة أو يتحسن بها الحديث بمجموع طرقه، ولعل الخطيب رحمه الله اشتغل بالجمع فترةً طويلة من عمره، ولم يكن عنده نصيبٌ كافٍ من الوقت لتحقيق ما جمع ونخله والتعليق عليه، والخطيب رحمه الله ليس جمّاعاً فقط بل جمّاع ناقد، وأصول النقد عنده واضحة، وتآليفه في المصطلح واضحة، وهي تدل على علو كعبه في علم الحديث، فلا تخفى عليه العلل، لكنه ربما لم يكن عنده الوقت لكي ينخل كل ما جمع ويكتب بجانب كل حديث صحته، أو أن طريقة العلماء أنهم كان يكتبون وطلبة العلم بقراءة الأسانيد يعرفون مدى صحة الحديث لا يحتاج إلى أن يقال له: هذا حسن وهذا ضعيف، أو هذا ضعيف وهذا صحيح، بينما نحن الآن بسبب جهلنا بعلم الحديث ليس عندنا قدرة على التمييز بين الأسانيد إلا من ندر.
ولذلك نحتاج بجانب كل حديث أن يعلق لنا عليه صحيح أو ضعيف، لأن هذا أوان وزمانٌ قد اضمحل فيه العلم، وذهب كثيرٌ منه، وتجد أكثر الناس ليس عندهم قدرة على التمييز بين الصحيح والضعيف.
ولذلك فإن عدداً من العلماء في الفترات المتأخرة بعد أن انتهت فترة جمع الحديث كانت هناك فترة التحقيق والتمحيص، والتصحيح والتضعيف، والتعليق على الأحاديث، وقد ورد عن علي رضي الله عنه: [يا حملة العلم! اعملوا به، فإنما العالم من عمل، وسيكون قومٌ يحملون العلم يباهي بعضهم بعضاً، حتى إن الرجل ليغضب على جليسه أن يجلس إلى غيره، أولئك لا تصعد أعمالهم إلى السماء] وهذا يتضح كثيراً في مشايخ الصوفية، فالشيخ يريد أن يكون كل الطلاب مريدين عنده، ومنتسبين إليه، ولا يرضى أبداً أن يذهب أحد تلاميذه إلى شيخٍ آخر، ويجلس عند الشيخ الآخر، والحسد والتقاتل على الدنيا، وتكثير الاتباع والطلاب واضحٌ جداً فيهم، وتجد بين طلابهم أحقاد ومنافسات، وبعض المصابين بالأمراض النفسية، حتى من المنتسبين إلى السنة تجد فيهم هذا الداء، فلا يُعصم منه إلا من عصم الله، وينبغي على الإنسان أن يدل الطلاب على الفائدة والخير، وينصحهم بالذهاب إلى المشايخ والعلماء أينما كانت مجالسهم، عنده أو عند غيره؛ لأن المهم هو فائدة الطالب، وليس المهم أن يستفيد منك أو من غيرك، ثم إن من طبيعة العلم أنه لا يُتلقى عن شخصٍ واحد، فالشخص الواحد يخطئ والطالب قد لا يعرف خطأ الشيخ إلا إذا جلس إلى غيره، وإلى هذا وهذا وهذا، ولذلك كان من وسائل السلامة في طلب العلم: الأخذ عن عددٍ من الأشياخ وليس عن شيخٍ واحد؛ خصوصاً في هذا الزمان الذي قلَّ فيه فقه العلم الموسوعي، أي: منذُ زمن كان العالم يعرف الفقه والحديث، والتفسير واللغة، وأصول الفقه والمصطلح وسائر العلوم، أما الآن مع وجود الجامعات والكليات بدأ التخصص، فصار عندنا طالب يفهم في الأصول فقط، ولا يفهم في الحديث، والآخر يفهم في الحديث ولا يفهم في الفقه، وهذا يفهم في الفقه ولا يفهم في اللغة وهكذا، وذلك بسبب انحصار منهج التعليم الموسوعي والدخول في عالم التخصصات، بل إن البعض أحياناً يأخذ مسألة واحدة يبذل فيها جهده وعمره في رسالة ماجستير أو دكتوراه، وبقية مسائل العلم نفسه التي تحمله كليته بالاسم لا يفقهها كثيراً، ثم يتخرج ويتوظف وينتهي علمه عند هذه المسألة التي بحثها في رسالته، أو في بحثه الذي قدَّمه لنيل شهادةٍ علمية.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: [تعلموا فإذا علمتم فاعملوا]، وقال: [أيها الناس! تعلموا فمن علمَ فليعمل].
وجاء عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: [مثل علمٍ لا يعمل به، كمثل كنزٍ لا ينفق منه في سبيل الله عز وجل].
وقال الزهري رحمه الله: [لا يرضّين الناس قول عالمٍ لا يعمل، ولا عاملٍ لا يعلم، فالذي يرضيهم العلم والعمل].
فالعمل والإيمان قرينان، ولا يصلح كل واحدٍ منهما إلا مع صاحبه.
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: [إنك لن تكون عالماً حتى تكون متعلماً، ولن تكون متعلماً حتى تكون بما علمت عاملاً].
وقال بعضهم: "الناس كلهم هلكى إلا العالمون، والعالمون كلهم هلكى إلا العاملون، والعاملون كلهم هلكى إلا المخلصون، والمخلصون على خطر عظيم"، لماذا؟ لأنه قد لا يختم له بالإخلاص، فقد ينحرف في آخر عمره، فالدنيا جهلٌ ومواتٌ إلا العلم، والعلم كله حجة على الإنسان إلا العمل به، والعمل كله هباءً إلا الإخلاص، والإخلاص على خطرٍ عظيم حتى يُختم به.
وقال الخواص: ليس العلم بكثرة الرواية، وإنما العالم من اتبع العلم واستعمله، واقتدى بالسنن وإن كان قليل العلم".
وقال عباس بن أحمد في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:٦٩].
قال: من هم هؤلاء الذين قال الله فيهم: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:٦٩]؟ قال: "الذين يعملون بما يعلمون نهديهم إلى ما لا يعلمون، فيعلمونه".
وقال يوسف بن حسين: [في الدنيا طغيانان: طغيان العلم وطغيان المال، والذي ينجيك من طغيان العلم العبادة، والذي ينجيك من طغيان المال -ما هو؟ - الزهد فيه].
وقال يوسف: [بالأدب تفهم العلم، وبالعلم يصح لك العمل، وبالعمل تنال الحكمة، وبالحكمة تفهم الزهد وتوفق له، وبالزهد تترك الدنيا -الترك الشرعي- وبترك الدنيا ترغب في الآخرة، وبالرغبة في الآخرة تنال رضا الله عز وجل].
العلم والعمل سلسلة تنتهي برضى الله عز وجل متى أردت أن تشرُف بالعلم وتنسب إليه وتكون من أهله، قبل أن تُعطي العلم ماله عليك، احتجب عنك نوره وبقي عليك رسمه وظُهوره، مجرد عنوان، ذلك العلم عليك لا لك، وذلك أن العلم يشير إلى استعماله، فإذا لم تستعمل العلم في مراتبه، رحلت بركاته.
قال عوذبادي: من خرج إلى العلم يريد العلمَ لم ينفعه العلم، ومن خرج إلى العلم يريد العمل بالعلم نفعه قليل العلم.
وقال: "العلم موقوفٌ على العمل، والعمل موقوفٌ على الإخلاص، والإخلاص لله يُورث الفهم عن الله عز وجل".
وقال مالك بن دينار: "إن العبد إذا طلب العلم للعمل كسره علمه -أي: عرف قيمة نفسه وعرف حقيقة أمره وتواضع لله- وإذا طلبه لغير ذلك، ازداد به فجوراً وفخراً" ازداد بالعلم فجوراً وفخراً وطغياناً على عباد الله وتكبراً.
الآن بعض الناس من المشايخ الذين أخذوا علمهم في بعض الجامعات وأخذوا الدكتوارة، يغضب إذا لم يُقال له: الدكتور فلان أو الشيخ فلان! فلابد أن يصدّر بلقب، وهذا يدل على عيبٍ فيه، وأن علمه لم يزكِ نفسه فيكون متواضعاً.
وورد: "خير العلم ما نفع، وإنما ينفع الله بالعلم من علمه ثم عمل به، ولا ينفع به من علمه ثم تركه" والآن عدد من الشباب الذين انتكسوا وانحرفوا باعوا كتبهم وقد كانوا في أول الأمر مقبلين على العلم والتعلم، والقراءة والبحث، وحضور الدروس، ثم انشغلوا بالدنيا والفتن والأشياء من الشبهات والشهوات ومغريات الدنيا، وفي النهاية باعوا كتبهم؛ للتخلص منها.
ولذلك قيل: "تعلموا العلم واعقلوه وانتفعوا به، ولا تعلموه لتجبلوا به، فإنه يوشك إن طال بكم العمر أن يتجمل بالعلم، كما يتجمل الرجل بثوبه" أي: تصبح القضية مجرد حلية وزينه فقط، وليست حقيقة ولا باطن.
قال أبو سعيد الخراز: "العلم ما استعملك واليقين ما حملك".
وقال أبو قلابة: [إذا أحدث الله لكَ علماً، فأحدث له عبادًة، ولا يكن همك أن تحدث به الناس].
ولذلك قال الحسن البصري رحمه الله: [همة العلماء الرعاية -رعاية حدود الله، رعاية حق الله، رعاية العلم الذي يحملونه وإعطاء العلم حقه بالعمل- وهمة السفهاء الرواية].
وقال علي بن أبي طالب بإسنادٍ عجيبٍ ذكره الخطيب رحمه الله قال: أخبرنا أبو الفرج عبد الوهاب بن عبد العزيز بن الحارث بن أسد بن الليث بن سليمان بن الأسود بن سفيان بن يزيد بن وكينة بن عبد الله التميمي من حفظه قال: سمعتُ أبي يقول: سمعتُ أبي يقول: سمعتُ أبي يقول: سمعتُ أبي يقول: سمعتُ أبي يقول: سمعتُ أبي يقول؛ سمعتُ أبي يقول: سمعتُ أبي يقول: سمعتُ علي بن أبي طالب يقول: [هتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل] قال الخطيب: عدد الآباء تسعة، أي: هذا إسناد من النوادر، وكل واحد من أصحاب هذا السند أخذه عن أبيه عن أبيه، وكان أبوهم الكبير قد سمعه من علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
قال: [هتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل] فعلم بدون عمل يُذهب العلم.