[صور من الأدب مع العلماء]
كذلك من الأدب مع العلماء: عدم ضرب أقوالهم ببعض، كأن تأتي إلى العالم تسأله ثم بعد أن يجبك تقول: لكن فلان يقول بخلاف قولك، تقصد أن تضرب أقوال العلماء بعضهم ببعض، عندهم، وإظهار ما لديك من علم أو متباهياً به مع هذا العالم، هذا خطأ، لا بد أن تظهر التواضع، لا تقل: فلاناً قال كذا، استخفافاً به وبقوله، أو إظهاراً لخطأه أو لإحراجه.
كذلك عدم نقل كلام بعضهم إلى بعض لإغارة الصدور، لا تذهب إلى عالم وتقول: قال عنك فلان كذا، قد يكون يجهل ما قال فيه فلان، أو لا يدري عنه، تقول: انظر! فلان يقول عنك: لا أدري عنك ولا سمعت فيك، أنت مجهول بالنسبة إليه، يجب نقل الكلام الطيب، وثناء أهل العلم بعضهم على بعض، حتى يحصل بينهم اتصال قلبي، من ثمرته المحبة، لأن مسألة التحاب بين العلماء هدف سام وخطير وكبير ولكن دور طلبة العلم يعتبر دوراً عظيماً في ذلك.
كذلك عدم مجادلتهم وإعنافهم بالسؤال، يقول الماوردي في أدب الدنيا والدين: فربما وجد بعض المتعلمين قوة في نفسه لجودة ذكائه -طالب العلم يكون فيه جودة في ذكائه وحدة في خاطره، فيقصد من يعلمه بالإعناف له، والاعتراض عليه، والازدراء به، فيكون كمن تقدم به المثل السائر:
أعلمه الرماية كل يوم فلما اشتد ساعده رماني
فلا يجوز لطالب العلم الذي عنده ذكاء واجتهاد وحدة خاطر، أن يكون غرضه للقعود في حلقات العلم هو الاعتراض على العلماء، والازدراء بههم، والتنقيب عن أخطائهم، وإظهار جهلهم أمام الناس، هذا مرض خطير، ولكن يذهب إلى العالم ويقول له بالمناصحة بينه وبين نفسه: يا أخي، أنت أخطأت في كذا، أنت قلت كذا، فإن لم يصحح العالم بعد ذلك على الملأ، فإنه يكون له الحق في إظهار الحق، لأنه لا يجوز كتم العلم.
وقضية السؤال لوحدها أدب قائم بنفسه في العلاقة بين طلبة العلم والعلماء، قال عليه الصلاة والسلام: (هلا سألوا إذ لم يعلموا، فإنما شفاء العي السؤال) ما الذي يشفي الجهل ويذهب الحرج؟ سؤال تقع في مسألة أو مأزق، ولا تعرف كيف تتصرف، ما هو الحل؟ السؤال، ولهذا قال بعض السلف: "العلم خزائن، والسؤالات مفاتيحها"، وقيل: "حسن السؤال نصف العلم"، ومع ذلك نهى الرسول صلى الله عليه وسلم أناساً آخرين بعدما أمر أناساً بالسؤال، فقال: (أنهاكم عن قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال)، وقال عليه الصلاة والسلام: (إياكم وكثرة السؤال، فإنما هلك من قبلكم بكثرة السؤال) هل بين هذه الأحاديث تعارض؟ كلا.
فإنما أمر في الحالة الأولى بالسؤال لمن كان قصده بالسؤال علم ما جهل، جاهل يريد أن يتعلم، لا بد أن يسأل، ونهى في الحالة الثانية عن السؤال إذا قصد بالسؤال إعناف من يسمع منه، أو كان السؤال في غير موضعه، أو المقصود بالسؤال إثارة الشبهات والشكوك، فعند ذلك لا يجوز السؤال، وقيل لـ ابن عباس: بم نلت هذا العلم؟ فقال: [بلسان سئول، وقلب عقول].
وكان من الأسئلة التي وجهت إلى الشيخ ابن باز: إذا سألت عالماً فهل يجب عليَّ أن أتبعه ولا أسأل غيره أو أسأل حتى يطمئن قلبي؟ فقال: هذا القول ليس بصحيح، ويجب على طالب العلم أن يتحرى الأعلم فالأعلم، والأورع فالأورع، وأن يسأل حتى يطمئن قلبه، لأنك قد تسأل ولكن الإجابة لا تشفي غليلك ولا تكفيك، ويظل في نفسك شيء وحرج، وهل الشيخ فهم السؤال أو لم يفهم السؤال؟ هل وقع الجواب على مسألة بعينها أو على مسألة أخرى ما فهمها؟ فلا بأس أن تسأل مرة أخرى وثالثة ورابعة، حتى تطمئن نفسك، هذا إذا كان في نفسك شيء من الشك أما من يذهب ويسأل عالماً معتبراً ثم يفتيه في قضية فلا تعجبه لهوى، يقول: والله هذا الجواب صعب، دعنا نسأل آخر ونرى ماذا عنده! أو تأتي تقول: سألت الشيخ فلان، يقول: يا شيخ، دعه فإنه متشدد، اسأل فلاناً الذي في المسجد الفلاني.
قال ابن عباس: [إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم] تأخذ علمك ممن؟ تسأل أي واحد؟ ليس كل إمام مسجد أهل للإفتاء والاجتهاد، بل نادر منهم في هذا العصر وهم ندرة جداً، وحسبك أن ينقل إليك أقوال العلماء.
وعن حكم افتراض المسائل والسؤال عنها، يقول سماحة الشيخ: إذا سأل عن مسألة يخشى أن يقع فيها فلا بأس بذلك، أما أ، يسأل عن مسائل افتراضية لا يمكن أن تحصل، لإضاعة الوقت، فهذا منهي عنه، فإذا سأل عالماً ثم سأل عالماً آخر وتنبه أحد طلبة العلم إلى خطأ في الجواب فهل يجوز له أن يتكلم؟ يجوز له أن يتكلم إذا كانت الفتوى باطلة، أو يعلم بطلانها، إذا امتنع يعتبر من كتم العلم، أما إذا كانت الفتوى ليست باطلة فعند ذلك لا يجوز له أن يتكلم، إذا كان المفتى به قولاً معتبراً من أقوال أهل العلم معلوم بالدليل الواضح.
فالخلاصة أن الذين يسألون تتبعاً للرخص وبحثاً عن المتساهلين من العلماء، ويقلبون الحقائق كما يفعل بعض الناس حين يسأل، فلا يعجبه الجواب، فيذهب لشيخ آخر ويغير السؤال، يريد أن يحصل على جواب يوافق هواه، فإن هذا ضلال وزيغ وفعل محرم.