أما من جهة ما حصل في بعض بلاد المسلمين من الغلاء فإليكم نموذجاً في ما حصل في عام (٦٤٣هـ) فإنه قد حصلت فتنةٌ ونزل كربٌ في دمشق فعدمت الأموال، وغلت الأسعار؛ حتى بلغ ثمن الغرارة ألف وستمائة، وقنطار الدقيق تسعمائة، والخبز كل أوقيتين إلا ربع بدرهم، ورطل اللحم بسبعة، وبيعت الأملاك بالدقيق -أي: البيوت بيعت بالأكل- وأكلت القطط والكلاب والميتات والجيفات، وتماوت الناس في الطرقات، وعجزوا عن التغسيل والتكفين والإقبار، فكانوا يلقون موتاهم في الآبار حتى أنتنت المدينة وضجر الناس، فإنا لله وإنا إليه راجعون! قال ابن السبط وهو أحد المؤرخين: ومع هذا كانت الخمور دائرة، والفسق ظاهراً، والمكوس -أي: الضرائب- بحالها، وغلت الأسعار في هذه السنة جداً، وهلك الصعاليك -أي: الفقراء- في الطرقات، وكانوا يسألون لقمة ثم صاروا يسألون لبابه، ثم تنازلوا إلى فلس يشترون به نخالة يبلونها ويأكلونها مثل الدجاج.
وذكر ابن حجر رحمه الله في حوادث سنة (٧٧٧) للهجرة قال: وقع في الشام غلاءٌ عظيم، واستمرت الشدة حتى أكلوا الميتات، ووقع أيضاً في حلب حتى بيع المكوك بثلاثمائة إلى أن بلغ الألف؛ حتى أكلوا الميتة والقطط والكلاب، وباع كثيرٌ من المقلين أولادهم، وافتقر خلقٌ كثير، ويقال إن بعضهم أكل بعضاً حتى أكل بعضهم ولده.
ثم عقب بعد ذلك الوباء، ففني خلقٌ كثير حتى كان يدفن العشرة والعشرون في قبر بغير غسلٍ ولا صلاةٍ ويقال: إن ذلك دام في بلاد الشام ثلاث سنين.