كذلك فإنها قد ساوت مريم بنت عمران لما ذكرهما معاً في هذا الحديث، وإذا كانت مريم خير نساء زمانها، فإن خديجة رضي الله تعالى عنها خير نساء زمانها، وقد جاء في رواية عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:(لقد فضلت خديجة على نساء أمتي كما فضلت مريم على نساء العالمين) وهذا حديث حسن الإسناد كما قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى، واستدل به من استدل على أن خديجة أفضل من عائشة، ونسائها يشمل كل امرأة على الأرض ممن كانت موجودة في زمن خديجة وممن ستوجد بعد ذلك.
وقد أخرج النسائي بإسناد صحيح عن ابن عباس مرفوعاً:(أفضل نساء أهل الجنة خديجة وفاطمة ومريم وآسية) فهؤلاء خير نساء الجنة، وقد قال صلى الله عليه وسلم أيضاً:(سيدة نساء العالمين مريم، ثم فاطمة، ثم خديجة، ثم آسية)، وقيل: إن مريم نبية، وقال بعضهم إنها ليست بنبية، لأنه لا يبعث من الأنبياء إلا رجال:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً}[يوسف:١٠٩].
وهذا الحديث تقول عائشة رضي الله عنها فيه:(ما غرت على امرأة للنبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة) وهذا يدل على أن الغيرة تقع من النساء الفاضلات فضلاً عمن دونهن، وأن عائشة كانت عندها غيرة عظيمة، فكانت تغار من خديجة مع أنها لم تجتمع هي وإياها في مكان واحد، أو تشترك هي وإياها في زوج، ومع ذلك غارت منها لكثرة ذكر النبي صلى الله عليه وسلم إياها، ولذلك قالت في السبب:(من كثرة ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها) وغيرة المرأة ناشئة من تخيل محبة غيرها أكثر منها، فإذا تخيلت أن زوجها يحب غيرها أكثر منها فهذا مبعث ومنشأ الغيرة.
ولا شك أن كثرة ذكر الرجل للمرأة يدل على كثرة المحبة، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يكثر من ذكر خديجة لكثرة محبته لها؛ يمدحها ويثني عليها، ويذكر أياديها البيضاء، وسالف أيامه الجميلة مع تلك الزوجة الوفية، تقول عائشة رضي الله عنها:(هلكت قبل أن يتزوجني) مع أنها ماتت قبل أن يتزوج النبي صلى الله عليه وسلم عائشة، ومع ذلك كانت الغيرة موجودة، كيف لو كانت خديجة حية؟ إذاً لكانت الغيرة أشد.
تقول في الحديث:(وأمره الله أن يبشرها) وهذا دال على محبة الله لها، قالت:(وإن كان ليذبح الشاة، ثم يقسمها في خلائلها في أصدقاء خديجة -أي: صويحبات خديجة، يذبح الشاة وفاء لذكرى زوجته- فيرسل قطعة من الشاة لهذه وقطعة لهذه، يرسل إليهن ما يسعهن) أي: ما يكفيهن وما يتسع لهن وما يشبعهن.
تقول عائشة رضي الله عنها:(وتزوجني بعدها بثلاث سنين) أرادت بذلك زمن الدخول، وأما العقد فكان بعد ذلك بسنة ونصف، (وأمره ربه عز وجل أن يبشر خديجة رضي الله عنها ببيت في الجنة من قصب).
تقول عائشة:(وما رأيتها ولم أدركها) كما في راوية لـ مسلم.
أما إدراكها لها فلا نزاع فيه؛ لأن عائشة كان عمرها عند موت خديجة ست سنوات، لكنها لعلها أرادت أنها ما اجتمعت بها عند النبي صلى الله عليه وسلم، وبناءً عليه ما أدركتها في تلك الحال، ولقد ماتت قبل أن يتزوجها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم عندما يذكر خديجة رضي الله عنها يكثر من ذكرها، تقول عائشة:(كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة) فكان عليه الصلاة والسلام يرد، ويقول:(إنها كانت وكانت) يذكر صفاتها كانت عاقلة كانت فاضلة كانت وفية، إنها رعتني، إنها دافعت عني، إنها أنفقت علي من مالها، وفي رواية:(آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله ولدها إذ حرمني أولاد النساء).