[أسر خبيب بن عدي وزيد بن الدثنة]
فأما خبيب بن عدي وزيد بن الدثنة، وعبد الله بن طارق فسلموا أنفسهم فربطوهم فقال الرجل الثالث: هذا أول الغدر، أي: إذا كان من أولها أنهم ربطوهم، فهذا بداية الغدر، ولذلك لما كانوا بـ مر الظهران انتزع الرجل الثالث وهو عبد الله بن طارق، انتزع يداه وأخذ سيفه وقاتلهم وقُتل، وبقي اثنان: خبيب وزيد، حتى باعوهما بـ مكة، فلما أتى هؤلاء الكفار إلى مكة وباعوا زيد بن الدثنة وخبيب بن عدي إلى كفار قريش، فاشترى خبيباً بنو الحارث بن عامر بن نوفل.
وكان لبني الحارث بن عامرثأر من خبيب؛ لأن خبيباً كان قد قتل كبير العائلة يوم بدر، وهو الحارث بن عامر، قتله يوم بدر، إذاً: خبيب بن عدي رضي الله عنه شهد بدراً، فهو من أفاضل الصحابة لأنه بدري، ثم إنه قتل الحارث بن عامر القرشي.
وكانت القضية في الجاهلية هي الثأر، فأرادوا أن يقتلوا خبيباً مكان قتيلهم الذي قتله، فاشتروه وأسروه عندهم وربطوه في بيتٍ لهم، ومكث عندهم أسيراً حتى إذا أجمعوا قتله، قيل أنهم كانوا في شهر حرام، وأرادوا أن ينتظروا حتى يخرج الشهر الحرام ثم يقتلوه، انتظروا حتى يخرج الشهر الحرام وأخذوهما إلى التنعيم -والتنعيم خارج الحرم كما هو معروف؛ المكان الذي فيه مسجد عائشة - هذا المكان الذي قُتل فيه خبيب وزيد رضي الله عنهما، فقيل أنهم أساءوا إليه في أسره، فقال لهم وهو أسير: [ما تصنع القوم الكرام هذا بأسيرهم] فأحسنوا إليه بعد ذلك، وجعلوه عند امرأة تحرسه، فيقال أن خبيباً قال لهذه المرأة واسمها موهب، قال لها: [أطلب إليك ثلاثاً: أن تسقيني العذب، وأن تجنبيني ما ذبح على النصب، وأن تعلميني إذا أرادوا قتلي].
فالصحابي يطلب أن يأتوا له بطعام حلال، لا يأتوا له بشيءٍ ذُبح على النصب، والنصب: هي الأصنام، وقال الله تعالى: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة:٣] فهو من المحرمات، فأبقوه عندهم حتى انتهت الأشهر الحرم وأجمعوا على قتله، حتى إذا أجمعوا على قتله أراد رضي الله عنه أن يتجهز ويستحد، والاستحداد: هو حلق شعر العانة، وهو من سنن الفطرة الذي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم: (خمسٌ من الفطرة وذكر منها: الاستحداد) وحلق الشعر بالموسى، ولذلك سميت العملية بالاستحداد وهو حلق شعر العانة بالحديد، أو بالموسى وهي من سنن الفطرة التي قيل أن الله تعالى قد أمر بها إبراهيم الخليل: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} [البقرة:١٢٤] قال ابن عباس رضي الله عنه: [خمسٌ في الرأس وخمسٌ في الجسد، فمنها الاستحداد، ومنها المضمضة والاستنشاق، واللحية، ونتف الإبط، وقص الأظفار، وحلق العانة، والختان].
ويدخل أيضاً في سنن الفطرة غسل البراجم والأشاجع وهي مفاصل الأصابع ومعاقب الأصابع، وكذلك يدخل فيها قص الشارب، وهو قص ما طال عن الشفة العليا مع تخفيف الشارب، فأما قص الأظفار وحلق العانة ونتف الإبط فقد وقت النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين أربعين يوماً لا تجوز الزيادة عليها، كما جاء في حديث أنس بن مالك وهو حديثٌ صحيح.
إذاً هذه الثلاثة: قص الشارب، ونتف الإبط، وحلق العانة، وقص الأظفار السنة جاءت بأن لا يُزاد على أربعين يوماً فلا يجوز تركها أكثر من أربعين يوماً، وذكر بعض أهل العلم أن الشعر والأظفار يتعاهد كل أسبوع، وذكر بعضهم أنه يكون في الجمعة.
والشعر والأظفار يختلف باختلاف الأشخاص، فبعض الأشخاص تطول أظفاره وشعره بسرعة، وبعضهم ببطئ المهم أنه لا يترك أكثر من أربعين يوماً، هذه ثلاثة لا تترك أكثر من أربعين يوماً وهذا توقيت النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يفيد أنه لو ترك أكثر من أربعين يوماً فإنه يأثم.
فأما الاستحداد: وهو حلق العانة فيكون بالحديد أو الموسى أو الشفرة أو ما شابه ذلك، هذه هي السنة وهذا هو الأفضل، لكن إذا استعمل أي مزيلٍ آخر جاز ذلك، والمقصود الإزالة، والسنة أن يكون حلقاً لأنه يؤدي إلى اشتداد الموضع وهذا من مصلحة البدن في هذا المكان.
وأما بالنسبة لنتف الإبط فإن نتف الشعر يؤدي إلى إضعاف الجلد، وهذا مصلحة الجلد في هذا المكان، حيث الإبط فيه رائحة العرق الكريهة، فإذا ضعف المكان بالنتف صارت الرائحة أخف والعرق أقل، ولذلك كانت السنة في النتف، ولكن قد لا يقوى بعض الناس على ذلك، ولا بأس أن يحلقها أو يزيلها بالنُورة أو أي مزيلٍ آخر، كل ذلك لا بأس به بالنسبة للإبط والعانة.
ومن تعاهده بالنتف فإنه يستمر على هذا ولا يكاد يؤلمه أو يؤذيه، ولكن من تركه وكبر عليه ربما أنه يؤلمه، على أية حال فالمقصود الإزالة.
وأما بالنسبة لقص الأظفار؛ فقد ذكر بعض أهل العلم أنه يبدأ بأظافر اليد اليمنى ثم اليسرى، وقال بعضهم يبدأ بالمسبحة لأنها موضع الشهادة لكن لا دليل عليه، ولكن استحسنه بعض أهل العلم، ثم ما على يمينها ثم إبهام اليمنى، ثم بعد ذلك اليسرى، وأما قص الشارب فإنه يقص ما طال عن الشفة العليا ولا يتركه يطول، وهو مؤذ وربما كان مجلبةً للجراثيم عند الشرب.
قال هذا: حتى إذا أجمعوا على قتله استعار موسى ليستحد بها - خبيب رضي الله عنه- تقول المرأة: حُبس خبيب في بيتي وقد اطلعت عليه يوماً وإن في يده لقطفاً من عنب مثل رأس الرجل يأكل منه، من كرامة الله لـ خبيب أوتي قطفاً من عنب كرامة من الله عز وجل، واستعار الموسى ليستحد بها، فغفلت المرأة التي تحرسه عن صبيٍ لها، قيل أن هذا الصبي هو أبو حسين بن الحارث بن عدي بن نوفل والصبي هذا دّب وحبا إلى خبيب على حين غفلة من المرأة، فأخذه خبيب فأجلسه عنده.
وفي رواية فأخذ خبيب بيد الغلام فقال: هل أمكن الله منكم؟ فقالت: ما كان هذا ظني بك فرمى لها الموسى وقال: إنما كنت مازحاً، وفي رواية ما كنت لأغدر، وفي رواية: إن هذه المرأة قال لها خبيب حين حضره القتل: ابعثي لي بحديدة أتطهر بها، أي: ليلاقي الله عز وجل وقد تنظف وتطهر، فأراد أن يزيل الشعر قبل القتل، فأعطته هذه الحديدة، وغفلت عن الصبي فدرج إليه حتى أتاه فوضعه على فخذه تقول المرأة: لقد رأيته يأكل من قطفٍ من عنب وما بـ مكة يومئذ ثمرة، وما كان إلا رزقٌ رزقه الله، أي: رزقه الله خبيباً، وهذا من الأدلة على كرامات أولياء الله عز وجل.