[عفة الطبري في سؤال الآخرين]
وكان الطبري عفيف النفس أكثر من ذلك، فهو مع زهده لا يسأل أحداً مهما ضاقت به النوائب، وينفق على نفسه مما تنتجه أرضه في قريته التي تركها له أبوه بـ طبرستان، ويعف عن الناس، ومما يدل على عفة نفسه الأبية هذه الأبيات التي وصف بها نفسه، فقال:
إذا أعسرت لم يعلم رفيقي وأستغني فيستغني صديقي
حيائي حافظٌ لي ماء وجهي ورفيقي في مطالبتي رفيقي
ولو أني سمحت ببذل وجهي لكنت إلى الغنى سهل الطريقِ
وهذا الخُلق عظيم؛ العفة عن سؤال الآخرين والترفع عن مد اليد للآخرين، وعدم الطلب من الآخرين، كما كان الشافعي رحمه الله يقول:
أمت مطامعي فأرحت نفسي فإن النفس ما طمعت تهونُ
وأحييت القنوع وكان ميتاً ففي إحيائه عرضي مصونُ
ولما تقلد الخانقان الوزارة، وجه إلى أبي جعفر الطبري بمال كثير؛ فأبى أن يقبله، فعرض عليه القضاء؛ فامتنع، فعاتبه أصحابه، فقالوا: لماذا لا تقبل القضاء وأنت تعدل، وذلك أحسن أن يتولاها شخص يجور فيها؟ وقالوا له: لك في هذا ثواب، وتحيي سنة قد درست وذهبت واندثرت، وطمعوا في أن يقبل ولاية المظالم، فانتهرهم، وقال: قد كنت أظن أني لو رغبت في ذلك؛ لنهيتموني عنه، فما بالكم تطلبون مني! فانصرفوا خجلين، وهذا من ورعه رحمه الله، لا يريد أن يدخل في القضاء؛ خوفاً أن يجور في حكم، أو يرتكب ظلماً.
وفي قضية التعفف والطلب من الناس وعدم مد اليد إلى الآخرين حصلت قصة عجيبة جداً ولطيفة للغاية، جمعت بين أربعة من المحمدين أحدهم الطبري في طلب العلم، كان من الرحلات الجميلة أن يترافق طلبة العلم للدراسة والسماع في بلدٍ من البلدان.
اجتمع أربعة من كبار العلماء في ذلك الوقت هم: محمد بن جرير الطبري، ومحمد بن نصر المروزي، ومحمد بن هارون الروياني، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة إمام التوحيد، جمعتهم الرحلة في طلب العلم بـ مصر، كانوا مجتمعين في مكان واحد، فلم يبق عندهم شيء ألبتة، وأضر بهم الجوع، فاجتمعوا ليلة في منزل كانوا يأوون إليه، فاتفق رأيهم تحت وطأة الجوع الشديد على أن يستهموا ويضربوا القرعة، فمن خرجت عليه القرعة سأل لأصحابه الطعام.
ما كانوا يسألون حتى أضر بهم الجوع، فليس في البيت شيء مطلقاً، ولا يوجد عند أحدهم قرشاً، ولا يرضى أحدهم أن يذهب ويسأل الناس طعاماً، ويقول: أعطونا رغيفاً أو أسلفونا رغيفاً فهم في غاية العفة، لكن ما هو الحل؟ أن يبقوا على هذه الحالة إلى أن يموتوا من الجوع؟ فخرجت القرعة على محمد بن إسحاق بن خزيمة رحمه الله تعالى، فقد كان من أولياء الله الصالحين، فقال لأصحابه: أمهلوني حتى أتوضأ وأصلي صلاة الاستخارة فاندفع في الصلاة يدعو الله تعالى، فإذا هم أثناء صلاة ابن خزيمة بالشموع وبرجل من قبل والي مصر يدق الباب، ففتحوا الباب، فنزل عن دابته، فقال: أيكم محمد بن نصر؟ فقيل: هو ذا، فأخرج صرة فيها خمسون ديناراً فدفعها إليه، ثم قال: أيكم محمد بن جرير؟ فقالوا: هو ذا، فأخرج صرة فيها خمسون ديناراً فدفعها إليه، ثم قال: أيكم محمد بن هارون؟ فقالوا: هو ذا، فأخرج صرة فيها خمسون ديناراً فدفعها إليه، ثم قال: أيكم محمد بن إسحاق بن خزيمة فقالوا: هو ذا يصلي، فلما فرغ دفع إليه الصرة وفيها خمسون ديناراً، ثم قال: إن الأمير كان قائلاً بالأمس -نوم القيلولة- فرأى في المنام خَيّالاً يقول: إن المحمدين -الأربعة كل واحد اسمه محمد- طووا كشحهم جياعاً في بلدك، فأنفذ إليهم هذه الصرار وأقسم عليكم إذا نفذت فابعثوا إلي أمدكم، يقول: الأمير يقسم عليكم بالله إذا انتهت أن تعلموه ليزيدكم.
انظر! ما سألوا أحداً، ولا خرج محمد بن إسحاق بن خزيمة إلى الشارع يسأل الناس، لكن بصلاحهم وإخلاصهم؛ أرى الله سبحانه وتعالى الأمير رؤيا فيها قائل يقول له في المنام: أعط الصرار لهؤلاء، فرزقهم الله.
وكان الطبري رحمه الله تعالى يكره البطر من الغني، والمذلة من الفقير، وكان يقول في شعره:
خلقان لا أرضى طريقهما بطر الغنى ومذلة الفقرِ
فإذا غنيت فلا تكن بطراً وإذا افتقرت فته على الدهرِ
وقال عبد العزيز بن محمد: كان إذا أهدى إليه مهدٍ هدية مما يمكنه المكافأة عليه، قبلها وكافأه، وإن كانت مما لا يمكنه المكافأة عليه -الهدية عظيمة لا يمكن أن يكافئ بمثلها- ردها واعتذر إلى مهديها.
ووجه إليه أبو الهيجاء بن حمدان ثلاثة آلاف دينار، فلما نظر إليها، عجب منها، ثم قال: لا أقبل ما لا أقدر على المكافئة عنه، ومن أين لي ما أكافئ عنها؟ فقال: ما لهذا مكافئة إنما أراد التقرب إلى الله عز وجل، فأبى أن يقبله ورده إليه.
وكان أبو الفرج الأصفهاني يختلف إلى الطبري ليقرأ عليه كتبه، فطلب الطبري حصيرة لغرفة صغيرة له، فدخل أبو الفرج وأخذ قياس الطول والعرض للغرفة، وعمل لها الحصير متقرباً بذلك له، فلما جاء به ووقع موقعه الحصير، أخذ الطبري أربعة دنانير ودفعها إلى أبي الفرج، فأبى أن يأخذها، وأبى أبو جعفر أن يأخذ الحصير إلا بها، وأهدى إليه جاره أبو الحسن المحرر فرخين؛ فأهدى إليه ثوباً.
إذاً: شيء لا يقدر أن يكافئ بمثله؛ يرفض أن يأخذه أصلاً.
وأهدى أبو علي محمد بن عبيد الله الوزير إلى أبي جعفر برمانٍ، فقبله وفرقه في جيرانه، ولم يأخذ منه شيئاً، فلما كان بعد أيام؛ وجه إليه بوعاء فيها عشرة آلاف درهم، وكتب معها رقعة وسأله أن يقبلها، وقال الوزير لمن حملها: إن قبلها وإلا فاسألوه أن يفرقها في أصحابه ممن يستحق، فلما دخل عليه وأوصل إليه الرسالة، قال أبو جعفر رحمه الله: يغفر الله لنا وله، اقرأ عليه السلام، وقل له: ارددنا إلى الرمان -الرمان كان أحسن- أهون من عشرة آلاف درهم، فقال له الرسول: فرقها في أصحابك على من يحتاج إليها ولا تردها، فقال الوزير: هو أعرف بالناس إذا أراد ذلك، وأجاب عن الرسالة، وبعد مدة جاءه مال ضيعته التي كان يعيش من ورائها فاشترى به بضاعة، وأرسلها إلى الوزير وفيها ما قيمته أربعون ديناراً من الذهب.