وختاماً: لا بد أن نؤكد -أيها الإخوة- على نقطة مهمة وهي أن الرفق قد ينقلب أحياناً إلى ذلٍ ومهانةٍ، بعض الناس يخطئون في المكان الذي يرفقون فيه، يعني: الموقف الذي يستخدم فيه الرفق يكون خطأ، المفروض أنه لا يستخدم الرفق في هذا الجانب، فينقلب الرفق في حقه إلى ذل ومهانة، فلا بد من التوسط في الأمور، ولذلك قال بعض السلف: لا تكن رطباً فتعصر، ولا يابساً فتكسر، وقال بعضهم: لا تكن حلواً فتبلع، ولا مراً فتلفظ إلى الخارج، هل كان الرسول صلى الله عليه وسلم يرفق في كل المواقف؟ لما قتل أسامة بن زيد الرجل الذي قال لا إله إلا الله، حيث رفع أسامة سيفه على رجل من الكفار قتل من المسلمين في إحدى المعارك خلقاً كثيراً، فلما رفع السيف عليه، قال الكافر: لا إله إلا الله، فقال أسامة: بعد ماذا؟ قتلت كل الناس والآن تقول لا إله إلا الله، فقتله، فلما رفع الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرف القصة، لم يقف موقف الرفق، وإنما وقف موقف الشدة الشديدة جداً، وجلس يوبخ أسامة بن زيد، ويقول له:(أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله) أو قال له: (ماذا تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟) حتى يقول أسامة: [فتمنيت أني ما أسلمت قبل يومئذٍ] يعني: تمنيت لو أني كنت كافراً لما قتلت الرجل وأسلمت بعدما قتلته، من شدة اللوم الذي شعر به.
لماذا لم يقف الرسول صلى الله عليه وسلم موقف الرفق؟ لأنه ليس موقفاً مناسباً، إذا انتهكت أمامك حرمات الله، هل تقف موقف اللين والرفق مع الناس، وتبتسم وتضحك وهم ينتهكون حرمات الله أمامك ويستهزئون بالدين، ويسبون الرسول والقرآن والرب عز وجل والعياذ بالله تعالى! فإذاً -أيها الإخوة- كل شيء له حدود، وكل شيء له موقف معين يتخذ فيه، فهناك فرقٌ بين الرفق والتساهل غير الشرعي، وتمييع الأمور، لا يعني الأمر بالرفق أن نترك الناس على راحتهم، لو أن زوجتي ارتكبت محرماً، أو أن ولدي نظر إلى محرم، هل أكون رفيقاً به بمعنى أني ألين معه فلا آمر بالمعروف ولا أنهى عن المنكر؟ لا.
وفرقٌ -أيها الإخوة- بين أن يكون الرفق وسيلة إلى تحصيل المقصود، وبين أن يكون الرفق هو الهدف، المهم أنه يصل إلى اللين حتى لو كان الوضع لا يسمح.
الرفق يجب أن يكون وسيلة يحقق المقصود، فإذا كان المقصود لا يتحقق بالرفق، وإنما يتحقق بالشدة والغلظة، فلا يجوز استخدام الرفق في هذه الحالة، ولا يعني الرفق الذلة للكفار، والذلة للذين يستهزئون بالمسلمين كالصور التي يطبقونها، وكالذين يسبون الله عز وجل، فهؤلاء ليس لهم الرفق، إذا دعوا إلى الله، ودين الله والحكمة، ووعظوا، وأصروا، فليس لهم إلا الغلظة {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ}[التحريم:٩] هذا التنبيه مهم جداً حتى لا تنقلب الأمور، وحتى لا تخرج عن إطارها الصحيح.
وفقنا الله وإياكم لأن نسلك طريق الرفق، ونسأله عز وجل أن ينمي هذا الخلق العظيم في أنفسنا، ويجعله لنا سبيلاً ومنهجاً ومسلكاً، وأستغفر الله لي ولكم.