[اللين والرفق]
ومما يتبع هذا الخلق خلقٌ آخر وهو: (اللين والرفق): قال الله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:١٥٩] فاللين في التعليم مُجْدٍ جداً، وفي الإنكار مفيدٌ للغاية، ويؤتي ثماره وأُكله، وهكذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع الأعرابي الذي بال في المسجد، فإنه كان معه في غاية اللين والرفق، وهكذا فعل مع الصحابي الآخر الذي تكلم في الصلاة وشمَّت العاطس.
فاللين والرفق من خلقه عليه الصلاة والسلام، وهو من الأخلاق العالية التي تُنجح الداعية في مسعاه، وهذا مثال في الدعوة: مر رجلٌ على صلة بن أشيم وقد أسبل إزاره، فَهَمَّ أصحاب صلة أن يأخذوه بشدة، فقال: دعوني أنا أكفيكم، فقال صلة بن أشيم للرجل: يا بن أخي! إن لي إليك حاجة! قال: وما حاجتك يا عمي؟ قال: أحب أن ترفع من إزارك، فقال: نعم وكرامة، فرفع إزاره، فقال صلة لأصحابه: لو قرعتموه لقال: لا ولا كرامة ولشتمكم.
فالنفوس مجبولة على محبة من يرفق بها ويحسن إليها.
ومن العلماء المعاصرين الذين اشتهروا باللين والرفق وحسن الخلق علامة القصيم الشيخ عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي رحمه الله تعالى وجعل الجنة مأواه ومثواه، ونفعنا بعلومه، هذا الرجل كان من خلقه شيء عجيب، يعرفه من عاصره وعايشه، وكان من رفقه أنه يتحاشى وضع العاصي في الموقف المحرج.
كان له شخص بينه وبينه معرفة، وهذا الإنسان كان مدخناً، لكنه لا يدخن بحضرة الشيخ، بل إنه يتحاشى جداً أن يطلع الشيخ منه على مثل هذا الأمر، وكان هناك طريقٌ ضيق -سكة ضيقة- دخل الشيخ مرة فيها يمر عابراً، وهذا الآخر قد أتى من الناحية الأخرى، وكلٌ منهما لا يدري أن الآخر قد سلك في هذه السكة الضيقة التي لا مجال فيها للف ولا الدوران، وكان هذا الرجل يدخن والدخان في يده، ويقترب كل واحدٍ منهما من الآخر حتى ما صار بينهما إلا متر، ففوجئ الرجل بالشيخ، وفوجئ الشيخ بالرجل والدخان في فيه، يقول: إنني ألقيت السلام وأغلقت فمي والدخان يخرج من أنفي، وأنا في غاية الدهشة والاضطراب من الشيخ، فماذا فعل؟ يقول: ما نظر إلي أبداً، رد السلام ومشى ولا كأنه يعرفني، وبعد ذلك تكلم الشيخ في مناسبة أخرى.
الداعية لا يترك المنكر لكن إذا استطاع أن يوصل النصيحة إلى المدعو بدون إحراجه فهذا أمرٌ مطلوب، واشتكي إلى الشيخ عن رجلٍ يتعدى على النساء في الليل ويقول بعض الألفاظ المشينة، وهو لا يظهر في الصلاة إلا قليلاً، فلقيه الشيخ مرة في الطريق، فقال له الشيخ: العزومة إما عندي أو عندك، إما آتيك أو تأتيني، فقال الآخر: عندي، فقال الشيخ: نحتكم أو يكون بيننا الحكم أن الأقرب بيته هو الذي تكون فيه الدعوة، فحسبوها فوجدوا بيت الشيخ أقرب، فجاءه فأكرمه الشيخ في منزله وألان له الكلام، وأحسن ضيافته، ثم قال له: أنت يا فلان! من عائلة كبيرة ومحترمة ومعروفة، ولكن شاعت عنك إشاعات، وأرجو أنها ليست بصحيحة، وصار من أمرك أنك لو لم تفعل خطأ وحصل شيء في البلد، قالوا: فلان هو الذي فعله، ولو أنك ما فعلته اتهمك الناس على سمعتك، فقام الرجل واعتذر، وقال: ما تركت المسجد بعدها، وتركت الخروج بالليل.
وصار يتحاشا ويستحي ويحذر أن يبلغ الشيخ عنه أي خبرٍ سيء.
ونصح مرة تاركاً لصلاة الفجر في الجماعة على انفراد فما تركها بعد ذلك، وكان من حسن خلقه، ومن حسن تعليمه، أنه سمع مرة صاحب حمار يجر عربة، رجل عنده عربه يجرها حمار، فوقف الحمار في الطريق واستعصى على صاحبه، والحمار حمار، ورفض أن يواصل الطريق، وصاحبه يضربه وينهره بدون فائدة، ثم صرخ الرجل، قال: ألا يوجد واحد من أولاد الحرام يمشي لي هذا الحمار، وكان الشيخ ماراً فسمعه يقول هذه الكلمة (ألا يوجد واحد من أولاد الحرام يمشي لي هذا الحمار) فقال الشيخ: بل في من أولاد الحلال من يمشيه إن شاء الله، ثم قبض الشيخ بيده على ركبة الحمار وجذبه إلى الأمام فمشى الحمار، فاندهش الرجل، وقال: سبحان الله يا شيخ! حتى الحمير يستجيبون لك.
وبعض هؤلاء المشايخ -الحقيقة- والقضاة الذين مروا في هذه الجزيرة لم يكتب تاريخهم، وليس لهم مصنفات ولا أشرطة ولا محاضرات، وكانوا على خلقٍ عظيمٍ وعلمٍ وافر، لكن ما سارت بأخبارهم الركبان، إنما الذي يجلس مع بعض كبار السن، وبعض تلاميذ العلماء يسمع عجباً من أخبار ينقل مثلها في الكتب عن أخلاق السلف.
على أية حال: فإن الرفق بالناس وحسن الخلق دائماً يكون من مفاتيح القلوب المستغلقة، يقول الأستاذ سيد رحمه الله: عندما نلمس الجانب الطيب لنفوس الناس نجد أن هناك خيراً كثيراً قد لا تراه العيون أول وهلة -يتكلم عن بعض من خبره في الدعوة- شيء من العطف على أخطائهم وحماقاتهم، شيءٌ من الود الحقيقي لهم، شيءٌ من العناية باهتماماتهم وهمومهم ثم ينكشف لك النبع الخيِّر في نفوسهم، حين يمنحونك حبهم ومودتهم وثقتهم، في مقابل القليل الذي أعطيتهم إياه من نفسك، متى أعطيتهم إياه في صدقٍ وصفاء وإخلاصٍ، هذه الثمرة الحلوة إنما تتكشف لمن يستطيع أن يشعر الناس بالأمن من جانبه، بالثقة من مودته، بالعطف الحقيقي على آلامهم وعلى أخطائهم وحماقتهم، وشيءٌ من سعة الصدر في أول الأمر كفيلٌ بتحقيق ذلك أكثر مما يتوقع الكثيرون.
وصحيح أن اللين والرفق مهم؛ لكن هذا لا يعني أنك تتنازل عن أشياء من الدين، وتسكت إذا انتهكت حرمات الله، ولا تنبس ببنت شفةٍ إذا استهزئ بشيء من دين الله، كلا.
وبعض الناس يحتجون باللين على طول الخط بقصة موسى مع فرعون، وهم يأخذون جزءاً من القصة ويتركون أشياء، أليس في قوله تعالى: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:٤٣ - ٤٤] دليل على اللين والرفق في الدعوة؟ بلى فيها.
لكن هل كان موسى على طول الخط ليناً ورفيقاً مع فرعون؟ لا.
كان معه ليناً في البداية؛ لأنه يُبدأ في اللين لا بالعنف، لماذا العنف ويمكن البداية باللين؟ فإذاً اللين والرفق في البداية، إذا حصل أن الشخص تمادى وصار يقع في دين الله، ويستهزئ بشرع الله، وينتهك حرمات الله، فهل يبقى الإنسان رفيقاً وليناً على طول الخط؟ لا.
ولذلك يؤخذ الموقف الآخر من الآيات الأخرى، قال الله عز وجل: {فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى * قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى} [طه:٦٠ - ٦١] فالشدة في الموعظة مهمة أيضاً، ليست قضية الرفق واللين فقط، لما قال فرعون: {إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُوراً} [الإسراء:١٠١]، قال موسى: {وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً} [الإسراء:١٠٢].
وصحيح أن اللين والرفق هو الذي يُبدأ به، وهو الغالب، وإذا ما اضطررنا لغيره لا نستخدم إلا هو، لكن في بعض الحالات لا بد من الشدة فيها على من يستحق الشدة، النبي عليه الصلاة والسلام قال لقريش في بعض المواقف: (جئتكم بالذبح)، ولما قال فرعون لموسى: {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ * وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الشعراء:١٨ - ١٩] قال موسى: {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} [الشعراء:٢٠] قبل أن يهديني الله: {فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ * وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائيلَ} [الشعراء:٢١ - ٢٢] أهذه نعمة تمن بها علي؟ أطعمت واحداً من بني إسرائيل فقط وجعلته عندك وآويته، ثم ذبحت رجال قومه، وسبيت نساء قومه، أهذه نعمة؟ {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائيلَ} [الشعراء:٢٢] {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ * وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} [غافر:٢٦ - ٢٧] على أية حال: فإن اللين والرفق مهم يبدأ به ولا يعدل عنه إلا للحاجة.