بقي لنا أيها الإخوة من الكلام في هذا لموضوع نقطتان: الأولى: تتعلق بحب الرئاسة، والثانية: تتعلق بالرياء، ثم الإجابة عن بعض الأسئلة.
أما بالنسبة لحب الرئاسة فإن حب الرئاسة شهوة خفية في النفس، وطمع يسعى إليه كل من في قلبه شيء من محبة هذه الأمور، فإن أكثر الناس يحب أن يكون ظاهراً ومعظماً، رئيساً مطاعاً وإليه الأمر في الأمور، وأن يؤخذ برأيه ومشورته، ونحو ذلك.
ونظراً لأن حب الرئاسة أو لأن الرئاسة إذا حصلت، يقع كثير من الناس بسببها في الظلم وفساد النية؛ لأن أصحاب المراكز دائماً الأنظار والأضواء مسلطة عليهم، جاء فلان وحضر فلان، فيقع في نفس الشخص شيء من كثرة ذكره بين الناس، وأنه شخص مهم، وبالتالي يقع فساد في قلبه من جراء هذا الأمر خصوصاً إذا بدأ الناس يتزلفون إليه، وقد يصرفون إليه شيئاً من الأشياء التي لا تجوز إلا لله، من أجل أن يحصلوا على مكاسب من ورائه فيتخذونه سلماً ويصرفون إليه أشياء من هذه الأمور التي فيها معاني العبودية، نظراً لذلك كانت الرئاسة مسألة خطيرة، وكان للسلف مواقف منها، وكان صلى الله عليه وسلم إذا جاءه واحد يطلب إمارة لم يعطه، قال:(إنّا لا نولي هذا الأمر أحداً سأله) جاء واحد يسأل الإمارة فقال: (يا عبد الرحمن بن سمرة لا تسأل الإمارة، فإنك إن سألتها -أي أعطيت لك- أوكلت إليها، وإن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها) لو أعطيتها من غير مسألة وقيل لك: تولَّ قلت: لا أريد، ثم ألزموك بها، فسيعينونك رغماً عنهم؛ لأنهم هم الذين ورطوك في الأمر وأنت كاره له، فلا بد أن يعينوك، وإلا فلا تقبل بهذه، ولأن الرئاسة أو الإمارة فيها إفساد للقلب، ابتعد عنها كثير من السلف، وكانوا يتعوذون بالله منها كما يتعوذون من الشيطان، وهذا الذي يفسر لنا عزوف بعض السلف عن القضاء، يخشى من المنصب، ويخشى أن يظلم الناس بسببه، وكان ربما ضرب بعضهم وسجن ليتولى القضاء ويرفض ذلك.
فإن قال قائل، لكن الناس لا بد لهم من رؤساء، ولا بد لهم من قواد، فكيف نفعل؟ فنقول: في الوضع الإسلامي والجو الإسلامي، عندنا نماذج ما حدث في عهد أبي بكر وعمر، وقول أبي بكر لما بويع، طلب من الناس إذا وجدوه على خير أن يعينوه وإذا وجدوه على باطل أن ينقدوه ويصوبوه، وكان عمر دقيقاً في محاسبة الولاة، وكان يعزل ويولي على أشياء بالدقة والإتقان، ويجعل العيون على الولاة، وكانت تأتي إليه أخبارهم بالدقة دائماً وهذا في عهد السلف ولا بد أن نفهم هذه القضية، في عهد السلف كان الأكفاء وأهل العلم كثر، إذا تدافعوا القضاء سيتولى واحد من أهل العلم، لأن أهل العلم كثر، وكذلك إذا ولي فلان ولايات، هناك من الأكفاء وأهل الطاعة والإيمان والقدرة كثر، إنه مجتمع إسلامي ناضج وفيه خبرات متفتحة، فلما تدافعوا كان تدافعهم من أجل أنه وجد أكفاء يديرون الأمور، فلو دفع عن نفسه؛ لا يحصل بسبب ذلك ضرر على المجتمع، لكن نحن الآن في وضعنا ماذا نفعل، تعالوا ننظر في حال يوسف عليه السلام {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}[يوسف:٥٥] لماذا طلب يوسف المنصب؟ وكيف يطلب يوسف المنصب؟ ونحن نتكلم الآن عن حب الرئاسة، نقول: إن يوسف كان يعلم، ورحم الله امرءاً عرف قدر نفسه، أنه كان لديه خبرة وقدرة على إدارة أمور التخزين، والصرف للناس بشيء من القدرة التي أعطاه الله إياها، ولم يكن يوجد في البلاد مثله ولا قريباً منه، فلأجل صالح الناس العام طلب أن يتولى ذلك المنصب، ولذلك نقول: إذا قل الأكفاء، فلا بد أن يولى الأكفاء وإذا ولي الأكفاء، فلا بد أن يربوا لأنه لو لم يتول هذا المنصب، لجاء آخر فأفسد فيه، لكن لو وجد من يتولى المنصب مثله في الكفاءة، أو قريباً منه، فالأسلم للقلب في هذه الحالة أن يبتعد عن المنصب، فلو كان يشغل المنصب عندنا فاسق وإنسان متمسك بالدين، وعنده خبرة:{إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ}[القصص:٢٦] أمانة وقوة وخبرة، فمن الذين يتولى؟ هل يقول الرجل الصالح: لا.
هذا خطر على قلبي لا.
إذا كان هذا المنصب ليس فيه من المنكرات والآثام والمفاسد أكثر من مصلحة وجودك فيه، فإنه يتعين عليك إنقاذاً لمصالح الأمة -التي تستطيع أن تحققها من هذا المنصب- أن تتولى هذا المنصب، ولو كانت المفاسد التي فيه أكبر من المصالح بحيث ربما تفسد أنت في المنصب، بحجة مصلحة المسلمين فلا يجوز لك أن تتولى، وإذا وجد مثلك في الكفاءة لنفس المنصب، فإن الأسلم للقلب أن تبتعد، لكن إذا لم يوجد غيرك، ومثلك في الكفاءة أو كانت المصالح أكثر من المفاسد، فإن توليك له مصلحة شرعية، وينبغي أن تحرص عليها، لا لأجل المنصب والشهرة، وأن يكون لك مكانة بين الناس، ولكن لأجل حماية مصالح المسلمين.
ونرجو بهذا التوضيح الأخير، أن تكون المسألة الآن قد صارت واضحة.