الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فالقصة التي سنتحدث عنها في هذه الليلة -أيها الإخوة- قصة قصها علينا النبي صلى الله عليه وسلم من أخبار الأنبياء ممن كان قبلنا {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى}[يوسف:١١١].
وهذه القصة هي قصة بناء الكعبة، وما وقع قبلها من الأحداث لإبراهيم الخليل عليه السلام مع أهله.
وقد ساق الإمام البخاري رحمه الله تعالى هذا الحديث مطولاً، وهذه إحدى روايات الحديث: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لما كان بين إبراهيم وبين أهله ما كان خرج بإسماعيل وأم إسماعيل ومعهم شَّنَّة - وهي القربة- فيها ماء، فجعلت أم إسماعيل تشرب من الشَّنَّة فيدر لبنها على صبيها، حتى قدم مكة فوضعها تحت دوحة، ثم رجع إبراهيم إلى أهله، فاتَّبَعته أم إسماعيل حتى لما بلغوا كَدَاء نادته مِن ورائه: يا إبراهيم! إلى مَن تتركنا؟ قال: إلى الله، قالت: رضيتُ بالله.
قال: فرَجَعَت، فجعلت تشرب من الشَّنَّة ويدر لبنها على صبيها، حتى فَنِي الماء.
قالت: لو ذهبتُ فنظرتُ لعلي أحس أحداً، فذهبت فصعدت الصفا، فنظَرَت ونظَرَت هل تحس أحداً، فلم تحس أحداً، فلما بلغت الوادي سعت وأتت المروة -كان بين العَلَمَين الأخضرَين في الصفا والمروة كان يوجد وادٍ سعت فيه هاجر سعياً حثيثاً ومشت المسافة الباقية- فلما بلغت الوادي سعت وأتت المروة، ففعلت ذلك أشواطاً, ثم قالت: لو ذهبتُ فنظرتُ ما فعل -أي: الصبي- فذهبت فنظرت فإذا هو على حاله كأنه ينشغ للموت -يشهق- فلم تُقِرها نفسها، فقالت: لو ذهبتُ فنظرتُ لعلي أحس أحداً، فذهَبَت فصعدت الصفا فنظَرَت ونظَرَت فلم تحس أحداً، حتى أتمت سبعاً، ثم قالت: لو ذهبتُ فنظرتُ ما فعل، فإذا هي بصوت، فقالت: أغث إن كان عندك خير، فإذا جبريل قال: فقال بعقبه هكذا، وغمز عقبه على الأرض، قال: فانبثق الماء، فدهشت أم إسماعيل! فجعلت تحفز -أي: تجمع وتضم هذا الماء- فقال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: لو تَركَتَه كان الماء ظاهراً.
قال: فجعلت تشرب من الماء ويدر لبنها على صبيها، فمر ناس من (جُرْهم) ببطن الوادي، فإذا هم بطير كأنهم أنكروا ذاك، وقالوا: ما يكون الطير إلا على ماء، فبعثوا رسولهم، فنظر فإذا هم بالماء، فأتاهم فأخبرهم، فأتوا إليها، فقالوا: يا أم إسماعيل! أتأذنين لنا أن نسكن معك؟ فبلغ ابنها -أي: إسماعيل شَبَّ- فنكح فيهم امرأة.
قال: ثم إنه بدا لإبراهيم فقال لأهله: إني مُطلع تركتي، قال: فجاء فسلم، فقال: أين إسماعيل؟ فقالت امرأته: ذهب يصيدُ، قال: قولي له إذا جاء غيِّر عتبة بابك، فلما جاء أخبَرَتْه، قال: أنتِ ذاك، فاذهبي إلى أهلك، قال: ثم إنه بدا لإبراهيم، فقال لأهله: إني مُطلِع تركتي قال: فجاء فقال: أين إسماعيل؟ فقالت امرأته -أي: الثانية-: ذهب يصيد، فقالت: ألا تنزل فتطعم وتشرب، فقال: وما طعامكم؟ وما شرابكم؟ قالت: طعامنا اللحم وشرابنا الماء، قال: اللهم بارك لهم في طعامهم وشرابهم، فقال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: بَرَكةٌ بدعوة إبراهيم -صلى الله عليهما وسلم- قال: ثم إنه بدا لإبراهيم فقال لأهله: إني مُطلِع تركتي، فجاء فوافق إسماعيلَ مِن وراء زمزم يُصْلِح نبلاً له، فقال: يا إسماعيل! إن ربك أمرني أن أبني له بيتاً، قال أَطِعْ ربك، قال: إنه قد أمرني أن تعينني عليه، قال: إذاً أفعل -أو كما قال- قال: فقاما، فجعل إبراهيم يبني وإسماعيل يناوله الحجارة، ويقولان:{رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[البقرة:١٢٧] حتى ارتفع البناء، وضعف الشيخ عن نقل الحجارة، فقام على حجر المقام فجعل يناوله الحجارة، ويقولان:{رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[البقرة:١٢٧]).
هذه إحدى روايتَي البخاري اللتين ساقهما رحمه الله تعالى في صحيحه.