نشأ الطبري رحمه الله نشأة جيدة للغاية؛ لأنه تربى في أحضان والده، وأبوه رحمه الله كان قد تفرس فيه الذكاء والنباهة والحفظ من البداية، ولعل من الأسباب أيضاً: أن أباه رأى رؤيا في المنام أن ولده أبا جعفر كان بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، ومع الولد مخلاف مملوء بالأحجار، وأنه يرميها بين يديه -بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام- فلما قص والد أبي جعفر الرؤيا على صديق له، عبرها له بأن ابنه إن كبر نصح في دين الله وذب عن شريعة الله، فازداد أبوه حرصاً عليه في طلب العلم، وربما أنه كان يقص هذه الرؤيا على ولده، لكي يستشعر الولد ذلك وتكون حافزةً له في طلب العلم.
وهذه النشأة لا شك أنها ساعدته كثيراً في طلب العلم، ففي آمل نشأ وترعرع في كنف أبيه، وهيأ له الأسباب، ولذلك حفظ القرآن وهو ابن سبع سنين، وصلى بالناس إماماً وهو ابن ثمان سنين، وكتب الحديث وهو ابن تسع سنين، ووهب نفسه للعلم في مقتبل شبابه، وظهرت عليه ملامح النبوغ ومخايل التفتح والذكاء الخارق والملكات الممتازة، وأدرك أبوه طبيعة ولده.
الآن عندنا أولاد أذكياء في المجتمع الإسلامي، ما عقمت نساء المسلمين أن يلدن أذكياء وحفاظاً نابغين، لكن أين الوسط الذي يحتضنهم؟! وأين الموجهين الذين يوجهونهم لطلب العلم؟! وأين الحرص عليهم منذ نعومة أظفارهم؟! فيوجد إهمال كبير للأطفال في مجتمعنا، وغاية ما يفعله الأب أن يسلم ولده للمدرسة، ثم لا يتابع الولد في غمرة انشغالاته، وقد يكون الولد نابغة فعلاً وحافظ وذكي للغاية ولكن لا يوجد توجيه، وربما يذهب نبوغ الولد في الألعاب واللهو، وربما يتوجه إلى الشر بعد فترة، ويستخدم ذكاءه في الشر، ويصبح من كبار المجرمين؛ لأن كبار المجرمين أذكياء، ولكن انحرفوا بسبب عدم وجود التربية.
فمن الفروق بيننا وبينهم: أن الأب إذا رأى ولده غير عادي كان يهتم به، ويعتبره امتداداً له، ولو كان الأب ليس بعالم وليس بنابغة ولا مشهور ولا معروف بالعلم، لكنه يعرف أن ولده هذا امتداد له في المستقبل يرفع به رأسه، ويكسب به أجراً من ربه.
ولذلك مثل والد أبي جعفر لما أحس أن ولده شخصية غير عادية، وأن فيه نبوغ وحفظ غير طبيعي؛ فإنه سعى لتهيئة كل الأسباب ليتوجه الولد للعلم، فالطفل في أول أمره لا يعرف مصلحته، فإذا ما وُجِدَ توجيه ودفع إلى حفظ القرآن والسنة، وإلى حفظ المتون وإلى غشيان حلق العلم، وإلى ثني الركب عند العلماء، فإن الولد لن يتعلم، فالاعتناء بالأولاد الصغار في الماضي كان ينشئ العلماء.
الاعتناء بالصغار من أكبر ما يستفاد من طفولة العلماء، فحياة العلماء في مرحلة الطفولة ينبغي أن نستفيد منها في اعتنائنا بأولادنا، ولو كان الواحد فينا أمياً أو عامياً أو كان نصف متعلم أو طويلب علم، أو لم يرتق إلى مرتبة طالب علم أصلاً، فإن ولده ربما يكون هو عالم المستقبل، فإذا كان التعامل مع الولد بهذه النفسية والتوجه؛ فلا شك أن النتيجة ستكون عظيمة.
وعلى طريقة العلماء يبدأ الولد عند الكُتَّاب حفظ القرآن يحفظ أشياء من السنة، ويحفظ متوناً، وبعد ذلك يلزم بعض الحلق التي تناسب سنه، وقد كان يوجد في كل بلد حلق يتوجه إليها الصغار، ثم إذا شبَّ أخذ العلم عن أهل بلده، ثم انطلق في أرجاء المعمورة راحلاً مرتحلاً في طلب العلم.