[الأخذ من كل علم بنصيب]
ومن الأشياء المهمة أيضاً في المنهج: الأخذ من كل علم بنصيب دون نسيان العلوم الأخرى، كما تقول الحكمة: خذ من كل شيءٍ شيئاً، وخذ كل شيء عن شيء، ومعناها: حاول أن تأخذ معلومات في كل فن من الفنون، ثم الفن الذي تجد فيه رغبة وانشراح صدر، وهواية وقدرة.
خذ من كل شيء شيئاً: أساسيات كل علم وفن، أي: إذا وجدت نفسك فيه متمكناً، أو عندك فيه رغبة، ومن شيء كل شيء ثم تخصص، وهذه من أعظم القواعد في المنهج، تأخذ أساسيات كل فن، ثم الفن الذي تجد نفسك فيه قادراً تبحر فيه.
بعض الناس يتخصصون في فن وينسون كل شيء، مثلاً: الآن بعض الناس يقول لك: والله أنا لا أفهم إلا في هذا الشيء، لا تسألني عن شيء آخر، وهذا موجود، وبعضهم إذا تعلم شيئاً وتخصص في العلوم الدنيوية ينسى الأشياء الأولى، لا يفهم الآن إلا في الشيء الذي تخصص فيه، وهذا خطأ، ولم تكن هذه طريقة علمائنا أنهم يتخصصون في شيء معين، أو ليس عنده فيه أساسيات في غيره، أو أنه يتخصص في شيء وينسى الأساسيات، هذه من القضايا التي طرأت الآن على طريقة التعليم، وهذه طريقة خاطئة موجودة الآن حتى في التخصصات الدنيوية، فلو أن شخصاً متبحراً في جزئية معينة، ولا يفهم أي شيء من الأشياء الأخرى أبداً، يكون أضل من بعيره فيها.
وقال ابن الجوزي معبراً عن حال هؤلاء الأشخاص الذين يتخصصون في فروعٍ معينة، وينسون الأشياء ولا يأخذون بالبدائيات والأساسيات في العلوم الأخرى، قال: ولقد أدركنا في زماننا من قرأ من اللغة أحمالاً -اللغة العربية ما شاء الله- فحضر بعض المتفقهة -حضر عنده طالب علم صغير- فسأله عن الحديث المعروف (لو طعنت في فخذها أجزأك) فقال اللغوي: هذا محمول على المبالغة، فقال له الصبي: أليس هذا في ذكاة غير المقدور عليه؟ ففكر الشيخ ساعة، ثم قال: صدقت.
أي: لو تردت شاة في بئر وما ماتت، وأنت لا تستطيع أن تذبحها فماذا تفعل؟ (لو طعنت في فخذها أجزأك) الآن نحن لا نبحث المسألة الفقهية والحكم والأشياء الراجحة الآن، لكن نتكلم عن القصة: (لو طعنت في فخذها أجزأك) أي: في تذكية الشيء الذي لا يُقدر على تذكيته، ذكاة غير المقدور عليه، لا يمكن أن تمسكه لتذبحه، شرد منك، فأنت تصيبه وترميه، (لو طعنت في فخذها أجزأك).
فعلم الصبي ما لم يعلمه الشيخ، فالشيخ لا يفهم إلا في اللغة.
وأدركنا من قرأ الحديث ستين سنة -تخصص فقط في الحديث- فدخل عليه رجل فسأله عن مسألة في الصلاة؟ فلم يدرِ ما يقول، وأدركنا من برع في علم التفسير، فقال له رجل يوماً: إني أدركت ركعة من صلاة الجمعة فأضفت إليها أخرى فماذا تقول؟ فسبه ولامه على تخلفه ولم يدر ما الجواب.
وأدركنا من برع في علوم القراءات، فكان إذا سئل عن مسألة يقول: عليك بفلان، اسأل الشيخ فلان قالوا: هذه كلها محن قبيحة، فلما رأيت في الصبا -يقول ابن الجوزي - أن كل من برع من أولئك في فن ما استقصاه، وإنما عوقته فضوله -أي: إذا برع رجل في فن، ذهب يأخذ الفضول والأطراف ويترك الأشياء الأخرى، أي: انشغل عن المهم وما بلغ الغاية- رأيت أن آخذ المهم من كل علم هو المهم.
هذه عبارة جامعة.
فإن من أقبح الأشياء أن يطلب المحدث علو الإسناد، وحسن التصانيف، فيقرأ المصنفات الكبار، ويطلب الأسانيد العوالي، ويكتب فيذهب العُمر ويرجع كما كان ليس عنده إلا أجزاء مصححة لا يعلم ما فيها، وقد سهر وتعب.
وإذا سألته عن علمه؟ قال متندراً بحال هؤلاء:
علمي يا خليلي في سفط في كراريس جياد أحكمت
وبخط أي خط أي خط
وإذا سألته عن مشكلٍ حك لحييه جميعاً وامتخط