للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[العلوم التي برع فيها أبو عبيد]

وأما بالنسبة للعلوم التي برع فيها أبو عبيد رحمه الله تعالى، فإنه كان موسوعة، لم يشغله علمٌ عن علمٍ، فلم يشتغل بالحديث عن الفقه، ولا باللغة عن التاريخ، فبعض الناس يمكن أن يقال عنه: محدث غير فقيه، وبعض الناس يمكن أن يقال عنه: فقيه غير محدث، لا يميز الصحيح من الضعيف في الأحاديث، لكن أبا عبيد -رحمه الله- وُصف بأنه الإمام، الحافظ، المحدث، المفسر، المقرئ، الفقيه القاضي المجتهد، اللغوي النحوي، الأخباري النسَّابة، أي: يعلم الأنساب، والأخباري من يعلم التاريخ، هكذا أقر له كبار الأئمة من معاصريه ومَن بعده، وبهذا وصفوه.

وهذا قد عبر به عن نفسه، فقال مرة: ما ناظرني رجلٌ قط وكان مفَنَّناً في العلوم إلا غلبته، ولا ناظرني ذو فنٍ واحد إلا غلبني في فنه ذلك، يعني: إذا كان الرجل متخصصاً في فنٍ واحد فيمكنه أن يغلبني، أما إذا كان في كثير من العلوم فإذا ناظرته غلبته، هذا دليل على سعة اطلاعه رحمه الله وشمولية معرفته.

ومما ميز الرجل أنه صنَّف في وقتٍ كانت المصنفات فيه قليلة، ولما انتشرت المصنفات صار بعضهم ينقل من بعض، فكانت مصنفاته أكثرها مبتكَرة، أي: أن بعض مصنفاته ربما لم يُسبق إليها، وبعض التراتيب التي فيها لم يُسبق إليها.

فالرجل مبارك في التصنيف والتأليف، ومصنفاته تنبئ عن أنه لم يكن متخصصاً في فنٍ واحد، فمثلاً: له في القرآن وعلومه مؤلفات، وفي اختيار القراءة الصحيحة الموافقة للعربية والأثر؛ لأن من شروط القراءة الصحيحة أن تكون موافقة للأثر، وموافِقةً لرسم مصحف عثمان، وموافقة لوجهٍ من أوجه اللغة المعتمدة، فـ أبو عبيد -رحمه الله- صنَّف في القراءة المختارة الموافقة للغة والأثر.

وكذلك صنف في الناسخ والمنسوخ.

وصنف في إعراب القرآن، وهذه كلها من علوم القرآن.

وصنف في الحديث وعلله، وكُتُبُه تشهد بذلك، وله كتاب مشهور اسمه: غريب الحديث.

وأما في الفقه؛ فإنه كان إماماً مجتهداً، يُذْكَر في طبقة الشافعي وأحمد، وله أقوال في الفقه، نثرها في كتابه غريب الحديث وغيره، وسنذكر بعضها إن شاء الله.

وله في الأخلاق والآداب مؤلفات؛ وفي اللغة العربية من نحو، وشعر، وأدب أيضاً مؤلفات، وفي التاريخ والأنساب مؤلفات.

فالرجل بالجملة واسع العلم.

وهذا ما ذكرناه من أن التخصصات الجامعية قد قضت على الموسوعية في العلم، ولم يكن من العلماء من يفهم في الأصول، أو يتخصص في اللغة، أو في المصطلح فقط، وإنما كان علم الواحد منهم شاملاً لأبواب العلم وأنواعه.

وقال أحمد بن كامل القاضي: كان أبو عبيد القاسم بن سلَّام فاضلاً في دينه وفي علمه، ربانياً، متفنناً في أصناف علوم الإسلام؛ من القرآن والفقه والعربية والأخبار، حسن الرواية، صحيح النقل، لا أعلم أحداً من الناس طعن عليه في شيء من أمره ودينه.

وهذه تزكية ممن يعرفه؛ بأنه لم يوجد عليه مطعن في شيء من أمره ودينه.

وقال عبد بن جعفر بن درستويه أو درَسْتَوَيه كلها بالفتح أو كلها بالضم، دُرُسْتُوَيْه أو دَرَسْتَوَيْه، وهو يصف أبا عبيد: كان من علماء بغداد المحدثين، النحويين على مذهب الكوفيين، ورواة اللغة والغريب عن البصريين والكوفيين، ومن العلماء بالقراءات، جمع صنوفاً من العلم، وصنف في كل فنٍ من العلوم والآداب فأكثر واشتهر.

وكذلك فإنه قد جاء في ترجمته: أن كتبه مستحسنة مطلوبة في كل بلد، والرواة عنه مشهورون ثقات ذوو ذكرٍ ونبلٍ.

ومعنى ذلك أن العلماء قد عرفوا قيمتها، ونصحوا بها، وطلبة العلم أقبلوا عليها فصارت مطلوبة مرغوبة، وهذا يبين دقة الرجل -رحمه الله- وعمقه.

وصنف كتباً وقد خرجت للناس واستُفيد منها علمٌ كثير، ولا شك أن التأليف في ساعات الأسحار حيث تصفو الأذهان، وتنشط القرائح والأفهام، فيه بركة، ويمكن أن يكون هذا أحد الأسباب التي جعلت مصنفات هذا الرجل مباركة.