للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[نهي الشرع عن مدح الموت]

الحمد لله وحده، وأشهد أن لا إله إلا هو عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أقام الله به الملة العوجاء، ودعا الناس إلى لا إله إلا الله وعلمهم ما ينفعهم في الدنيا والأخرى.

أيها الإخوة: ومما يتعلق بالموضوع كذلك: ما تراه أيها المسلم أحياناً في نعي الجرائد، فإن كثيراً من الناس إذا ذهب ينشر نعياً عن ميت من أصحابه أو من أهله، تراه يقول مثلاً في مطلع النعي: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} [الفجر:٢٧ - ٢٨] أو يقول في لقب: انتقل إلى رحمة الله فلان، أو يقول: المغفور له فلان قد مات في كذا وكذا، أو يقول: الشهيد فلان، أو مات شهيداً ونحو ذلك، إلى آخر ذلكم من الآيات التي يصدر بها النعي، وإلى آخر ذلك من الألفاظ: المرحوم فلان.

يا أخي المسلم ما يدريك بأنه مرحوم؟ ما يدريك لعله انتقل إلى غضب الله وعذابه بدلاً من أن ينتقل إلى رحمته؟ ما يدريك لعل نفسه أمارة بالسوء وليست نفساً مطمئنةً؟ كيف تحكم عليه؟ كيف تحكم عليه بهذه الأحكام فتقول هذا صاحب النفس المطمئنة: {ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:٢٨ - ٣٠] ما يدريك أنه قد دخل الجنة عندما مات؟ ما يدريك بأن الله قد غفر له أو لم يغفر له؟ ما يدريك بأنه شهيد؟ ربما كان غير شهيد.

فلذلك أقرأ عليكم أيها الإخوة هذا الحديث الذي رواه البخاري رحمه الله، والذي يوضح لك بجلاء خطأ ونكارة ما يفعله الناس اليوم في هذه الأمور.

عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أم العلاء الأنصارية -امرأة من الأنصار- قالت: لما هاجر المهاجرون من مكة إلى المدينة، كانوا فقراء ليس عندهم مأوى ولا مكان يبيتون فيه، إخوانهم الأنصار كانوا يحرصون عليهم أشد الحرص، فتقول المرأة: اقتسموا المهاجرين قرعة، كل واحد من الأنصار قال: أنا أريد فلان أنا أريد فلان، والمهاجرين قلة في العدد أقل من الأنصار، فماذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم؟ قسمها بالقرعة، يأتي برجل من المهاجرين، فيقرع بين الأنصار فيخرج هذا من نصيب فلان فيأخذه معه في بيته، ويسكنه ويكرمه ويطعمه، قالت هذه المرأة رضي الله عنها: فصار لنا عثمان بن مظعون المهاجري رضي الله تعالى عنه، وأنزلناه في أبياتنا، أكرمناه فوجع وجعه الذي توفي فيه، نزل به المرض والوجع الذي أدى به إلى الوفاة، فلما توفي غسل وكفن في أثوابه، تقول هذه المرأة التي أضافت هذا الرجل: ما علمت منه إلا كل خير، أي أنها ما رأته إلا عابداً مجاهداً في سبيل الله، تقول: رحمة الله عليك يا أبا السائب -وهي كنية عثمان بن مظعون - حتى هنا الكلام صحيح ودعاء بالرحمة له، فشهادتي عليك لقد أكرمك الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وما يدريك أن الله أكرمه؟ فقلت: بأبي أنت يا رسول الله! فمن يكرمه الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما هو فقد جاءه اليقين -أي: الموت- والله إني لأرجو له الخير).

انظروا إلى التصحيح والتعليل، المرأة قالت: شهادتي عليك لقد أكرمك الله، ماذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم؟ (والله إني لأرجو له الخير) فلو قلت مثلاً: أرجو أن يكون فلاناً من أهل الجنة، أرجو أن الله قد أكرمه، نسأل الله أن يغفر له ذنوبه، نسأل الله أن يبلغه عليين، إلى آخر ذلك من ألفاظ الدعاء للميت، فلا بأس، لكن إطلاق الحكم له بالجنة وإطلاق الحكم له بالمغفرة أو الشهادة هذا مخالف لمذهب أهل السنة والجماعة، لأن من عقيدتهم أنهم يقولون: لا يجوز الحكم لمعين بجنة أو نار إلا من حكم له الوحي، فإذا حكم الوحي لـ أبي بكر أنه من أهل الجنة فنحن نقطع أنه من أهل الجنة، إذا حكم القرآن أن أبا لهب في النار قطعنا بأنه في النار، أما غير ذلك من الأشخاص لا نقطع لهم بجنة أو بنار إلا ما ورد في الوحي، بل نقول: إن فلاناً عمله من عمل أهل الجنة، وفلان عمله من عمل أهل النار، وهكذا.

ثم قال عليه الصلاة والسلام مكملاً حديثه: (والله إني لأرجو له الخير، ووالله -انظروا أيها الإخوة إلى هذه العبارة- ما أدري وأنا رسول الله ماذا يفعل بي).

ولذلك تقول هذه المرأة: فما زكيت بعده أحداً أبداً.