[هل يرجع العاصي بتوبته إلى درجته قبل معصيته؟]
النقطة الأخيرة: بعض الناس عندما يتوب من الذنب يتساءل في نفسه تساؤل النادم المتحسر: هل الآن بعد توبتي أرجع إلى ما كنت عليه قبل حصول الذنب مني؟ واحد كان على درجة من تقوى الله، فعل معصية أو معاصي، نزلت مرتبته عند الله بسبب المعاصي، لو تاب من هذه المعاصي، هل يعود إلى نفس الدرجة الأولى؟ رجل عند الله عز وجل في الدرجة العشرين من الجنة مثلاً، ثم عمل معاصي فنزل إلى الدرجة العاشرة، ثم تاب من المعاصي هل يعود إلى الدرجة الأولى أم لا؟ بعض العلماء قال: لا يمكن أن يعود، وقد مثل لذلك ابن الجوزي في صيد الخاطر، فقال: لأن من لبس ثوباً سليماً ليس كمن لبس ثوباً مرقعاً، وبعض الناس قال: يعود مطلقاً إلى المرتبة التي كان فيها.
وفصل ابن تيمية رحمه الله تعالى في هذا الأمر تفصيلاً ممتازاً، فقال: إن من التائبين من لا يعود إلى درجته، ومنهم من يعود إليها.
من التائبين من لا يعود إلى درجته الأولى أبداً، فيبقى أنزل منها، ومنهم من يعود إليها، ومنهم من يعود إلى أعلى منها، فمن التائبين من يعود إلى أعلى من الدرجة التي كان فيها، فيصير خيراً مما كان قبل الذنب.
وكان داود عليه الصلاة والسلام بعد التوبة خيراً منه قبل الخطيئة، قال: وهذا بحسب حال التائب بعد توبته وجده وعزمه وحذره وتشميره، فإن كان هذا الجد والعزم والتشمير على طاعة الله بعد التوبة كبير جداً، بحيث إنه فاق سرعة الطاعة قبل التوبة، فهذا يعود إلى مرتبة أحسن من التي كان عليها قبل وقوع الذنب.
وإن عاد في سيره إلى مثل ما كان عليه قبل الذنب -نفس السرعة- فإنه يعود إلى نفس الدرجة، وإن كان سيره أبطأ، ترك الذنب وتاب، لكن دخل في نفسه نوع من الفتور والكسل، فصار سيره أقل في الطاعات، فهذا لا يعود إلى المرحلة الأولى أبداً.
وهذا أيها الإخوة! كرجل مسافر سائر على الطريق بطمأنينة وأمن، فهو يعدو مرة ويمشي مرة، ويستريح مرة، وينام مرة، وهكذا، فبينما هو كذلك إذا عرض له ظل ظليل، وماء بارد، وروضة مزهرة، فدعته نفسه إلى النزول في ذلك المكان، فنزل فيه، فوثب عليه عدو من ذلك المكان، فوثقه وربطه، فلما أيس هذا الرجل واعتقد أنه هالك، وأنه سيصبح رزقاً للوحوش والسباع، وبينما هو في هذه الحالة تتقاذفه الظنون، إذا واقف على رأسه والده الشفيق القادر، فحل وثاقه وقيوده، وقال له: اركب الطريق واحذر هذا العدو مرة أخرى، فإنه على منازل الطريق لك بالمرصاد، واعلم أنك ما دمت حاذراً منه، متيقظاً له، فإنه لا يقدر عليك.
فإن كان هذا الرجل كيساً فطناً لبيباً، فإنه سيسرع في الطريق إسراعاً أكثر من إسراعه الأول، حتى لا يغويه شيء من الزينة في مراحل الطريق، وقد يكون سيره أضعف، فيعود في سيره في الطريق إلى نفس السرعة الأولى، وقد يكون سيره أقل.
فهذا مثل من عمل الذنب ثم تاب منه، فمنهم من يكون بعد التوبة من الذنب أشد لحوقاً بالمشوار، وأكثر سيراً وطاعة، فهذا يصبح أحسن منه قبل الذنب، وهكذا كما ذكرنا في تفصيل المثال.
اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، وفقنا إلى التوبة النصوح يا رب العالمين، اللهم واجعل توبتنا إليك توبة صحيحة، لا عودة بعدها إلى الذنوب، اللهم واجعلنا من التائبين والقانتين لك، والمخبتين إليك، واجعلنا من الأوابين المنيبين التوابين، واغفر ذنوبنا واغسل حوبتنا، اللهم اسلل من نفوسنا سخام الخطايا والذنوب والشرك، واجعلنا من المتعبدين لك على منهاج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى العقيدة الصحيحة وبها متمسكين، وبسنة نبيك صلى الله عليه وسلم وعليها سائرين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.