[إصابة سعد بن معاذ في الخندق]
أخرج الإمام أحمد رحمه الله تعالى، عن محمد بن عمر، عن أبيه، عن علقمة بن وقاص -وهذا الإسناد قال عنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة: إن سنده جيد، وكذلك قال ابن كثير رحمه الله تعالى- قال: قالت عائشة: [خرجت يوم الخندق أقفو آثار الناس، قالت: فسمعت وئيد الأرض ورائي -أي: حس الأرض- فالتفت فإذا أنا بـ سعد بن معاذ ومعه ابن أخيه الحارث بن أوس يحمل مجنه يتقى بها من الضربات -الترس- فجلست إلى الأرض، فمر سعد وعليه درع من حديد قد خرجت منها أطرافه، وكان من أعظم الناس وأطولهم، فقالت عائشة: فأنا أتخوف على أطراف سعد] فأنا خفت على أطراف سعد التي برزت من هذا الدرع الذي يلبسه، خفت عليها أن يصيبها سوء، فمرَّ فحصل ما كانت تخشى منه عائشة رضي الله عنها، ما الذي حدث؟ قالت: [ويرمي سعداً رجل من المشركين من قريش يقال له ابن العرقة -لأن أمه كانت تسمى العرقة - فقال المشرك: خذها وأنا ابن العرقة، فقال له سعد: عرق الله وجهك في النار].
القوة في الرد على المشركين، فأصاب هذا السهم العرق الذي في وسط الذراع يسمى الأكحل، فدعا الله عز وجل سعد بن معاذ، فقال: [اللهم لا تمتني حتى تُقر عيني من قريظة، أو حتى تَقر عيني من قريظة].
بنو قريظة خانوا العهد، وضربوا المسلمين من الخلف، الأحزاب من المشركين من أمام الخندق، وبنو قريظة خانوا العهد من الخلف، ويريدون أن يطبقوا على المسلمين، فوقع المسلمون بين نارين خانت بنو قريظة العهد الذي كتبوه من الرسول صلى الله عليه وسلم خيانة عظمى استحقوا بها ما سيأتي.
كان سعد بن معاذ حليفاً لهم في الجاهلية، فقال سعد لما أصيب: [اللهم لا تمتني حتى تُقر عيني من قريظة] قالت عائشة: [وكانوا حلفاء مواليه في الجاهلية].
وقفة بسيطة عند هذا الدعاء! كان الصدر الأول من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم إذا دعوا الله تعالى تحس أن لدعائهم معنىً عظيماً، لا يدعون الله بأمور تافهة وأشياء بسيطة، ولكن يدعون الله بما يجيش في نفوسهم من علو الهمة، وما يفكرون فيه وما يهتمون به حقيقة.
الناس الواحد منا اليوم إذا اهتم بالمال قال: يا رب! لا تخسرني في الفلوس، يا رب! ربحني، يارب! أعطني كذا وكذا من الأموال، لماذا؟ لأنه يهتم بهذا الأمر وأصبح هذا هو شغله الشاغل، وترى الطالب في المدرسة هكذا، وترى الرجل، وترى الناس الذين يدعون الله، نحن لا نتكلم الآن عن الذين لا يدعون الله، هؤلاء أمرهم منتهٍ، نحن نتكلم اليوم عن المسلمين وهم يدعون الله الذين يدعون بماذا يدعون؟ هل نحن اليوم ندعو الله من قلوبنا إذا خلا الإنسان بنفسه في السجود؟ بعض الإخوان اليوم يدعو في التشهد أو يدعو مثلاً بعد الصلاة، ماذا يقول الواحد منا في دعائه؟ الغالب من الناس يدعو لنفسه يدعو أن يرزقه الله مالاً يدعو لأبنائه وزوجته، يدعو هذا شيء طيب وحسن، ونحن لا نقول: إن هذا الشيء حرام، لا، بل هو قربة وطاعة، ولكن أن يخلو دعاؤنا من أمر المسلمين هذه هي المآخذ التي نأخذها على أنفسنا، هل اليوم نحن ندعو إذا دعا الواحد منا ربه أن يرزقه مالاً أو صحة أو الولد هل يدعو الله أن ينصر عقيدة التوحيد، أو أن يرفع البلاء عن المسلمين المضطهدين في أنحاء العالم، أو ينصر المجاهدين في سبيل الله، أو أن يجمع كلمة المسلمين على السنة الصحيحة وعلى العقيدة الصحيحة؟ هل نحن اليوم ندعو الله عز وجل بالأمور العظيمة التي يجب أن تكون هي شغلنا الشاغل، أم أننا نقتصر في الدعاء على طلب المال وطلب العافية والصحة؟ الحقيقة أيها الإخوة أن الإنسان إذا كان منشغلاً بقضية يتابعها ويصرف لها جهده ووقته فإنها ستظهر حتى في دعائه، أما إذا كان منشغلاً بأشياء أبسط من هذا بكثير فإنها ستظهر في دعائه أيضاً، فهل نحن نسأل الله عز وجل أن يحقق الأمور العظيمة التي هي اليوم البلوى التي وقعت في المسلمين، هذه نقطة ينبغي الانتباه إليها.
ثم بعد ذلك بعث الله عز وجل ريحاً على المشركين وكان الجرح الذي حصل في يد سعد بن معاذ اقترب من الشفاء واندمل إلا شيئاً يسيراً وبعث الله الريح على المشركين، {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً} [الأحزاب:٢٥] فلحق أبو سفيان ومن معه بـ تهامة ولحق عيينة ومن معه بـ نجد، ورجع بنو قريظة فتحصنوا في صياصيهم، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضع السلاح وأَمر بقبة من أدمٍ فضربت على سعد في المسجد.
الآن سعد جريح تنزف منه الدماء، والرسول صلى الله عليه وسلم يعتني بإخوانه المسلمين عناية كبيرة، وأمر المسلمين فضربوا خيمة في ساحة المسجد لـ سعد بن معاذ، يوضع فيها حتى يداوى من جراحه التي حصلت له.
وبعد ذلك جاء جبريل عليه السلام وإن على ثناياه لنقع الغبا، رفقال: أوقد وضعت السلاح، والله ما وضعت الملائكة السلاح، قال النبي صلى الله عليه وسلم: فأين؟ فأشار إلى بني قريظة، فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلبس رسول الله صلى الله عليه وسلم لامته، وأذن في الناس بالرحيل أن يخرجوا فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحاصر بني قريظة حصاراً شديداً حتى طلبوا الصلح، قالوا: نستسلم لكن نريد أن تُحكم فينا واحداً منا من هو الشخص الذي رشحوه للحكم؟ إنه سعد بن معاذ؛ لأنهم كانوا حلفاء له في الجاهلية، فظنوا أن سعد بن معاذ سيرأف بهم، ويحكم فيهم حكماً معتدلاً، لأنه كان حليفاً لهم في الجاهلية وصديقاً لهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: انزلوا على حكم سعد بن معاذ، فنزلوا وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد فأتي به على حمار وقد حمل عليه، وحث به قومه، فقالوا لـ سعد بن معاذ: يا أبا عمرو! حلفاؤك، ومواليك، وأهل النكاية، وهم من قد علمت، أي: ارأف بهم، هؤلاء كانوا معنا أصلاً وأموالنا وأموالهم سواء، فلم يلتفت إليهم - سعد - ولا كلمهم أبداً، حتى إذا دنا من بئرهم التفت إلى قومه الذين قد أحاطوا به، فقال لهم: قد آن لي ألا تأخذني في الله لومة لائم؛ فلما قال هذه الكلمة، بعض الرجال الذين معه رجعوا إلى قومهم من بني عبد الأشهل فنعوا رجال بني قريظة قبل أن يحكم سعد عرفوا من هذا الكلمة: [لقد آن لـ سعد ألا تأخذه في الله لومة لائم] فرجعوا وهم يزفون خبر إعدام رجال بني قريظة إلى قومهم من بني عبد الأشهل قبل أن يتكلم سعد بشيء.