[نزول قبيلة جرهم عند أم إسماعيل بمكة]
قال: (فإن هاهنا بيت الله يبنيه هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيع أهله، وكان البيت مرتفعاً من الأرض كالرابية -مكان البيت مرتفع كالرابية- تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وشماله، فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم -وهي قبيلة مشهورة- فبقيت هاجر على هذا الحال تتغذى وولدها على هذا الماء المبارك) ماء زمزم الذي هو طعام طُعْم وشفاء سُقْم، يغني عن الماء.
حتى أن أبا ذر رضي الله عنه لما جاء مكة جلس عند زمزم يشرب من زمزم فقط شهراً حتى تكسرت عُكَنُ بطنه، أي: سَمِن حتى ذهبت عُكَنْ بطنه مِن السِّمَن ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم عن زمزم: (ماء زمزم طعام طُعْم وشفاء سُقْم) يقوم مقام الطعام، وهو سبب للشفاء من الأمراض والأسقام فإذن الله.
عندما أتى هؤلاء الرفقة من قبيلة جرهم (مقبلين من طريق كداء، فنزلوا في أسفل مكة، فرأوا طائراً عائفاً -أي: رأوا طائراً يحوم فوق الموضع- فقالوا: إن هذا الطائر ليدور على ماء -العرب كانوا يعرفون أنهم إذا رأوا الطائر يدور في موضع معناه: أنه يوجد ماء في هذا الموضع- فاستغربوا -استغرب هؤلاء الجرهميون- قالوا: إن هذا الطائر ليدور على ماء، وعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء -متى صار هناك ماء في الوادي، عهدُنا ما فيه ماء- فأرسلوا جَرِيَّاً قبيلة (جرهم) من العرب كان مكانهم قريباً من مكة، ويقال: إن أصلهم من العمالقة، هؤلاء عرب يتكلمون العربية، ولما نزلوا جاءوا على عادتهم في التنقل في هذا الموضع ورأوا طائراً عائفاً.
فأرسلوا جَرِيَّاً -وهو الرسول، أرسلوه ينظر لهم الخبر، وسمي الرسول جَرِيَّاً؛ لأنه يجري مسرعاً في حوائجه ليأتي بالخبر بسرعة- فإذا هم بالماء، فرجع، فأخبرهم بالماء -رجع الرسول وأخبر قبيلة جرهم أن المكان فيه ماء- فأقبلوا وأم إسماعيل عند الماء، فقالوا: أتأذنين لنا أن ننزل عندك، فقالت: نعم، ولكن لا حق لكم في الماء -الماء ملكي فقط وليس لكم حق فيه- قالوا: نعم -نرضى وننزل عندكِ، والعرب كانوا ينزلون في المكان الذي فيه ماء.
قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: فألفى ذلك أمَّ إسماعيل، وهي تحب الأنس) فالأُنس ضد الوحشة، والإِنس جنس هاجر من الإِنس، تحب جنسها، أو تحب الأُنس الذي هو ضد الوحشة، رأت هاجر من مصلحتها أن ينزل هؤلاء عندها، لماذا تبقى وحيدة في الصحراء؟! وافقت على أن ينزلوا عندها وشرطت عليهم أنه لا حق لهم في الماء.
فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم -استدعوا هؤلاء الجرهميون أهاليهم- فنزلوا معهم، حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم -من جرهم- وشبَّ الغلام -أي: إسماعيل عليه السلام - وتعلَّم العربية منهم) إذاً: إسماعيل بن إبراهيم لم يكن أبوه عربياً ولا أمه هاجر عربية، فتعلم العربية من جُرْهم، لكن عندنا حديث حسن عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيه: (أول مَن فَتَقَ الله لسانه بالعربية المبينة إسماعيل) فكيف نجمع بين هذا وهذا؟! نقول: إن إسماعيل تعلَّم العربية مِن جُرهم، لكن الله رزق إسماعيل الفصاحة المتناهية في اللغة العربية، ولذلك يقول الحديث: (أول مَن فَتَقَ الله لسانه بالعربية المبينة إسماعيل) فجرهم عرب وعلموه العربية، لكن ليست العربية الفصيحة المبينة مَن الذي ألهم إسماعيل العربية الفصيحة المبينة؟ الله عز وجل.
إذاً: أصل اللغة تعلمها من جرهم، ثم إن الله أَلْهَم إسماعيل العربية الفصيحة المبينة فنطق بها، ولذلك صار إسماعيل أفصح العرب، ثم صارت اللغة الفصيحة بعد ذلك تُتَناقَل.
لذلك الذين قالوا: إن اللغة العربية مصدرها الوحي لهم حظ من الدليل.
ويمكن أن يقال: إن أصل اللغة كانت موجودة عند جرهم، لكن مستوى الفصاحة والبيان في اللغة كان بوحي أو بإلهام من الله، هو الذي ألهم إسماعيل وعلمه العربية الفصحى، فالعربية الفصحى إلهام من الله لإسماعيل، وبعد إسماعيل انتقلت هذه العربية الفصحى التي يرفض اليوم بنو قومنا استعمالها، ويصرون على الكلام بالأجنبية، والتاريخ بالأجنبية، والعمل باللغة الأجنبية، وهذه اللغة العربية مصدرها إلهام من الله لإسماعيل، فلماذا العدول عنها؟!