وأما بالنسبة لعلوم القرآن، فإن أبا عبيد -رحمه الله- قد صنف كتابه شواهد القرآن، وعندما روى حديث:(الله أكبر! خربت خيبر؛ إنا إذا نزلنا بساحة قومٍ فساء صباح المنذَرين) قال السيوطي: هذا الحديث أصلٌ في جواز التمثل والاستشهاد بالقرآن والاقتباس، أي: أن يقتبس المرء من القرآن كلمات أو جزءاً من آية فيجعلها في كلامه وتعبيره إذا كان حقاً، وإذا لم يكن على وجه التنقص أو الاستهزاء، فالنبي عليه الصلاة والسلام عبر عن نزوله ليهود خيبر، فقال:(الله أكبر! خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قومٍ فساء صباح المنذَرين)، وقوله:(فساء صباح المنذرين) جزء من آية، يقول السيوطي: وألف قديماً في جواز الاقتباس من القرآن والاستشهاد ببعض الفقرات الإمام أبو عبيد القاسم بن سلَّام كتاباً ذكر فيه جميع ما وقع للصحابة والتابعين من ذلك، أورده بالأسانيد المتصلة إليهم، أي: استشهادات الصحابة في خلال كلامهم بأشياء من القرآن، وأن ذلك ليس بحرام ولا ببدعة ما دام أنه كلام حق ليس فيه تنقص ولا استهزاء أو مزاح في شيء من الدين، فإنه لا بأس أن يستشهد.
وبعض الاستشهادات يكون فيها تكلف، كما ذكر ابن الجوزي -رحمه الله- في صيد الخاطر، قال: إن أبا علي ابن عقيل -رحمه الله- من الفقهاء والعلماء الكبار، لما مات ولده وكان يحبه كثيراً، وكان شاباً قد علمه وتعب عليه، فحزن الأب جداً، وخرج الناس معه وعليهم الحزن، فمشوا معه في الجنازة إلى المقبرة، ولما اجتمعوا حول القبر وأرادوا إنزاله فيه؛ صاح أحد الناس:{يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ}[يوسف:٧٨] قال: فضج الناس بالبكاء، فعلق عليها قائلاً: إن القرآن لم ينزل لإثارة الأحزان، وتجديد الآلام، وإنما نزل لتسكينها، فنَعَى على ذلك الرجل أن يقتبس هذا الاقتباس الذي كان غير مناسب ألبتة، وصحيحٌ أن العزيز من أسماء الله؛ لكن ليس من المناسب أن يقول في هذا الموضع:{يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ}[يوسف:٧٨].
وكذلك ما روى الخطيب في كتابه التطفل، أي: المتطفلون على الولائم الذين يأتون بغير دعوة، روى قصة رجل رأى أحد أصحاب البيوت يدخل بيته بطعام، وأعرض عنه ولم يلتفت إليه ولا دعاه، قال: فتسَّور عليه السطح، وأشرف عليه في حوش بيته في الدار، والرجل حوله بناته قد وضع الطعام، فانتبه له صاحب البيت فصاح به وعنَّفه وقال: اتقِ الله! كيف تطَّلع على حرماتي وبناتي؟! فقال الطفيلي:{لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ}[هود:٧٩].
فبعض الاستشهادات في غير موضعها، فمثل هذا الاقتباس والاستشهاد ليس صحيحاً، وإذا كان فيه شيء من الاستهزاء بالدين فهذه أطم وأسوأ وأخبث، لكن إذا كان في كلامِ جِدٍّ كأن يصف رجل حال الأمة، وما وقع فيه من الأهواء، وحال الناظر والمفكر في هذا الحال، فقال: فأينما توجهت تجد هذا الفساد، وهذا الركام:{مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ}[إبراهيم:٢١] يعني: ما لنا مخرج ولا مهرب من هذا الذي وضعنا فيه الأعداء.
فقد يستشهد البعض بأشياء من القرآن لا بأس بالاستشهاد بها في مقامِ جِد مناسب، الشاهد الذي وضعه في السياق مناسب، مثل قول النبي عليه الصلاة والسلام:(إنا إذا نزلنا بساحة قومٍ فساء صباح المنذَرين).
أما أن يُستشهد بالقرآن في أي مناسبة فهذا غير صحيح، ويجب أن يجلَّ كلام الله عن هذه المناسبات التافهة، أو الاستخدامات التي يستخدم بها بعض الناس آيات من القرآن، أو أجزاء من القرآن في أشياء من التوافه، أو مقام لعب ولهو، أو كلام باطل مثلاً، وهذا واقع في كلام الناس كثيراً مع الأسف! ألف أبو عبيد -رحمه الله- أيضاً كتاباً في عدد آي القرآن، وعدد آيات المكي والمدني.