للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[سنة الله في مداولة الدنيا بين الناس]

ومن العجائب في الدنيا أن الله تعالى لم يجعل لشيء فيها استمراراً ولا ارتفاعاً متواصلاً، ولا بد أن يخفض ويذل، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن حقاً على الله تعالى ألا يرفع شيئاً من أمر الدنيا إلا وضعه) رواه البخاري رحمه الله.

إذاً: لا يدوم في الدنيا سلطان ولا مال ولا عمرٌ ولا حياة ولا قوة، فتجد الناس والمجتمعات إذا ارتفعوا في قوة أعقبها ضعف وتفكك وانهيار، وإذا صحوا في شباب أعقبه أمراض وهرم وموت مفند، وإذا ارتفعوا في مال أعقبه إفلاس وفقر وضياع، فمن رحمة الله ألا يجعل الارتفاع في الدنيا دائماً، وإنما لا بد أن يجعل بعده ضعفاً وهواناً وانخفاضاً، وإلا لكانت الفتنة أعظم بكثير مما هي عليه الآن.

ومن تأمل في الواقع عرف تلك الحكمة الربانية العظيمة، فأنت ترى المجتمعات في عنفوانها وقوتها لا يمر عليها سنوات إلا وتصبح في تفرق وتمزق وشقاق، وترى أعظم الناس غنى لا بد أن يعقبه شيء من الفقر والإفلاس، وإلا هرم مفند وموت عاجلٌ يقطعه عن التلذذ بماله وغناه.

وهكذا ترى لله تعالى في خلقه عجائب لا يمكن أن يستمر في الدنيا أحد على قوته، ولا أن يستمر أحد في الدنيا على غناه، فإن الأرض لله يورثها من يشاء ولله عاقبة الأمور.

الدنيا لا تصفو لشارب، ولا تبقى لصاحب، ولا تخلو من فتنة، ولا من محنة، فأعرض عنها قبل أن تعرض عنك، واستبدل بها قبل أن تستبدل بك، فإن نعيمها ينتقل، وأحوالها تتبدل، ولذاتها تفنى، وآثارها تبقى، لذاتها أحلام، الدنيا مثل الحية، لين مسها، قاتل سمها، النقمة فيها نازلة والنعمة فيها زائلة.

وكل هذا الكلام -يا إخواني- إنما هو لنعقل أن السعي للآخرة والمسارعة في العمل للآخرة وأن لا تشغلنا الدنيا بحطامها عن السعي والعبادة.

قال بعض السلف: مثل الدنيا والآخرة مثل الضرتين إن أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى، وهذا ينبهنا أيضاً ويوجب علينا الاستعداد ليوم الرحيل.

قال سليمان بن عبد الملك لـ أبي حازم: مالنا نكره الموت؟ قال: لأنكم خربتم آخرتكم، وعمرتم دنياكم، فكرهتم أن تنتقلوا من العمار إلى الخراب، وكذلك فإن هذا الكلام يفضي بنا إلى عدم التعلق بزينة الدنيا وزخرفها عندما يعلم العبد أن المتاع زائل وأنه هو زائل إن لم يزل المتاع قبله، وكذلك فإن الدنيا قيمتها عظيمة في وقتها.

العمر: فهو محل العمل.

الدنيا ساعة فاجعلها طاعة.

انتهاز الفرصة.

(نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ).

قال بعض السلف: الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما.