إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
الحمد لله الذي جعل في كل زمان بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، وينهون عن الردى، ويحيون بكتاب الله الموتى، وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الجهالة والردى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه! وكم من ضال تائه قد هدوه! فما أحسن أثرهم على الناس! وما أقبح أثر الناس عليهم! ينفون عن دين الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، هؤلاء العلماء شهداء الله في أرضه، هؤلاء العلماء الذين رفعهم الله عز وجل:{يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}[المجادلة:١١] العلماء فوق المؤمنين: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ}[آل عمران:١٨] فبدأ سبحانه وتعالى بنفسه، وثنى بملائكته، وثلث بأهل العلم، وكفاهم بذلك شرفاً وفضلاً وجلالة ونبلاً:{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}[الزمر:٩].
ولذلك أحال الله الأمة إليهم فقال:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}[الأنبياء:٧] وهذه آياته لا يعقلها إلا العالمون، وهذا كتابه مستودع في صدورهم:{بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ}[العنكبوت:٤٩] فهم أهل الخشية حقاً: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}[فاطر:٢٨] وهم خير البرية بعد الأنبياء: {أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ}[البينة:٧] هم أهل الخشية: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ}[البينة:٨] هم الدين أراد الله بهم خيراً: (من يرد الله به خيراً يفقه في الدين) ورثوا أنبياءه (والعلماء ورثة الأنبياء) وهذه درجة المجد والفخر، وبهذه الرتبة نالوا الشرف والذكر، فلا رتبة فوق رتبة النبوة، ولا شرف فوق شرف وارث ميراث تلك النبوة، وفضل العالم على العابد كفضل النبي صلى الله عليه وسلم على أدنى واحد فينا.
هؤلاء العلماء يستغفر لهم من في السموات والأرض من مخلوقات الله عز وجل:(فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب) لا رتبة فوق رتبة من تشتغل الملائكة وغيرهم بالاستغفار والدعاء لهم، وتضع أجنحتها من أجلهم، هؤلاء الذين ألهمت الحيوانات والدواب في قاع البحر، وداخل الجحر أن تستغفر لهم، وبلغ من فضلهم أن الله سخر دواب الأرض التي لا تعقل أن تستغفر لهم، هؤلاء الذين عبدوا الله بالعلم، وخافوه بالخشية والتقوى، وحملوا هذا الدين وبلغوه للناس، شرحوا للناس كتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، والذي يعظمهم، فإنه يعظم ربه؛ لأنه عظَّم الذين يشرحون رسالات الله سبحانه وتعالى إلى الخلق، هؤلاء أهل العز حقاً، وهؤلاء رؤساء العالم صدقاً، تعلموا العلم وطلبوه وتذاكروا به وبحثوا عنه وبذلوه وعلموه.
أرفع الناس عند الله منزلة، من كان بين الله وبين عباده، وهم الأنبياء والعلماء، ومن أراد النظر إلى ميراث الأنبياء، فلينظر إلى مجالس العلماء، هنا تقسم تركة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.
وما عبد الله بمثل الفقه، قال الشافعي رحمه الله:"إن لم يكن الفقهاء العاملون أولياء لله، فليس لله ولي" هؤلاء الذين اشتغلوا بالعلم، لكي ينقذوا بكتاب الله تعالى وسنة النبي صلى الله عليه وسلم أهل الضلالة والجهالة، فكم من إنسان قد اهتدى من بعد ضلالة، وكم منهم قد تعلم من بعد جهالة!