للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أحاديث تبين هديه عليه الصلاة والسلام وأدبه في الضحك]

والآن لنتجه إلى أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في مسألة الضحك في مناسبات جاء فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ضحك، وننظر من خلال هذه الأحاديث هديه عليه الصلاة والسلام وأدبه في ذلك.

١ - عقد البخاري رحمه الله في كتاب الأدب فصلاً بعنوان: باب التبسم والضحك، وقالت فاطمة عليها السلام: (أسر إلي النبي صلى الله عليه وسلم فضحكت).

وقال ابن عباس: [إن الله هو أضحك وأبكى] أي: أن الله أنشأ هذا في الإنسان، وأنه قد يضحك اليوم ويبكي غداً، بل إنه يضحك في لحظة ويبكي في أخرى بعدها، أو العكس بحسب الدواعي والدوافع كما حصل لـ فاطمة رضي الله عنها كما سيأتي، يضحك الإنسان أحياناً في اليوم الواحد ويبكي، فالمشاعر والأحاسيس تتغير.

قال: عن عائشة رضي الله عنها: (أن رفاعة القرظي طلق امرأته فبت طلاقها، فتزوجها بعده عبد الرحمن بن الزَبِير فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت عائشة: يا رسول الله! إنها كانت عند رفاعة فطلقها ثلاث تطليقات فتزوجها بعده عبد الرحمن بن الزَبِير، فقالت: وإنه والله ما معه -يا رسول الله! - إلا مثل هذا الهدبة هذبة أخذتها من جلبابها، قال: وأبو بكر جالسٌ عند النبي صلى الله عليه وسلم، وعمرو بن سعيد بن العاص جالسٌ بباب الحجرة ليؤذن له، فطفق خالد ينادي أبا بكر ألا تزجر هذه عما تجهر به عند رسول صلى الله عليه وسلم وما يزيد رسول الله صلى الله عليه وسلم على التبسم، ثم قال: لعلكِ تريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا.

حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك).

فالنبي صلى الله عليه وسلم عندما جاءت هذه المرأة وذكرت هذا الكلام ومقصود المرأة أنه لا يجامعها وأنه ليس له قدرة على الجماع، وأن ما معه إلا مثل هدبة الثوب، فهو غير قادر على الجماع.

ثم جاء الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إنها تكذب، وإنه ينفضها نفض الأديم، المهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سمع تعبير المرأة ضحك وتبسم، لأنه فَهِمَ مقصودها، وأنه ضحك ليبين أنه يفهم ماذا تريد؟ ولذلك قال: (لا.

حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك) أي: تريدين الطلاق من زوجك الجديد لترجعي لزوجك الأول، لا.

حتى يقع الجماع في الزواج الجديد، لأنه لا يجوز العودة إلى الزوج الأول الذي طلق ثلاثاً وبعده تزوجت ثانٍ إلا إذا حصل وقاعٌ من الثاني في الزواج الثاني.

٢ - ذكر البخاري في هذا الباب أيضاً حديث عائشة أنها قالت: (ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم مستجمعاً قط ضاحكاً حتى أرى منه لهواته إنما كان يتبسم)، وهناك أحاديث: (فضحك حتى بدت نواجذه) والنواجذ: جمع ناجذة وهي الأضراس التي لا تظهر إلا إذا كان الضحك فيه شيءٌ من السعة، لكن هل هناك تنافي بين حديث عائشة: (ما رأيته مستجمعاً قط ضاحكاً حتى أرى منه لهواته)، وبين هذا الحديث: (ضحك حتى بدت نواجذه)؟

الجواب

إن المثبت مقدم على النافي، هذا من جهة، وأقوى من ذلك كما رجح ابن حجر رحمه الله أن الذي نفته عائشة غير الذي أثبته أبو هريرة، فضحك حتى بدت نواجذه لا يصل إلى درجة القهقهة، مستجمعاً ضاحكاً -أي: يقهقه- ربما ينقلب منها الشخص، لا.

وقال ابن حجر بعد أن استعرض عدداً من الأحاديث -كما سنمر عليها إن شاء الله- قال: "والذي يظهر من مجموع الأحاديث أنه كان في معظم أحواله لا يزيد على التبسم، وربما زاد على ذلك فضحك، والمكروه من ذلك إنما هو الإكثار منه، أو الإفراط لأنه يُذهب الوقار.

وقال ابن بطال: والذي ينبغي أن يُقتدى به من فعله ما واظب عليه في ذلك".

٣ - وأتى البخاري رحمه الله كذلك في هذا الباب بحديث أم سلمة: (أن أم سليم قالت: يا رسول الله! إن الله لا يستحي من الحق، هل على المرأة غسلٌ إذا هي احتلمت؟ قال: نعم.

إذا رأت الماء، فضحكت أم سلمة، فقالت: أتحتلم المرأة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فبم شبهها الولد؟!).

إذاً: المرأة تحتلم ويكون لها ماء، وإلا كيف يكون الشبه لها؟ يخرج الرجل لأعمامه إذا لم يكن لها ماء يعلو ماء الرجل أو يسبق ماء الرجل، فيحصل التذكير أو التأنيث أو يحصل أن يخرج لأعمامه أو لأخواله، فإذاً لا يُقال لها: فضحتِ النساء لإنها جاءت تسأل، وهنا ضحكت أم سلمة، قال ابن حجر: "والغرض من إيراد البخاري لهذا الحديث؛ لوقوع ذلك بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليها ضحكها، وإنما أنكر عليها إنكارها احتلام المرأة، فأثبت أنها تحتلم".

وأما حديث عائشة: (ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم مستجمعاً قط ضاحكاً حتى أرى منه لهواته) فذكر رحمه الله تعالى في شرح هذا الحديث أن اللهوات جمع لهاة: وهي اللحمة التي في أعلى الحنجرة من أقصى الفم، أي: لا يكون ضحكاً تاماً، مقبلاً بكليته على الضحك بحيث تبدو اللهاة التي في آخر الفم.

٤ - ومن الأحاديث التي كان فيها ضحك النبي صلى الله عليه وسلم معبراً عن شيءٍ عظيم هذا الحديث، وهو آخر رجل يدخل الجنة، قص النبي صلى الله عليه وسلم قصة آخر رجل يدخل الجنة، يأتي وقد أخذ الناس أماكنهم، ويأتي ويقول: قربني إلى الجنة أبعدني عن النار اجعلني عند الباب أدخلني قال: (فيسمع أصوات أهل الجنة، فيقول: أي رب! أدخلنيها، فيقول: يا بن آدم! ما يَصْرِيْنِي منك أيرضيك أن أعطيك الدنيا ومثلها معها؟) الناس قد أخذوا أخذاتهم واعطياتهم، وهذا الرجل لم يكن عنده أمل أن يدخل الجنة، وإنما يسأل الله، والله يقربه خطوة بعد أخرى حتى يدخله الجنة، ويقول له: تريد أن أعطيك ملكاً مثل الدنيا مرتين؟ (قال: يا رب! أتستهزئ بي وأنت رب العالمين؟) فهذا الرجل ما ظن أنه يصل ويحصل على هذا الكرم، فيقول لله: (أتستهزئ بي وأنت رب العالمين؟ فضحك ابن مسعود -راوي الحديث- فقال: ألا تسألوني مم أضحك! فقالوا: ممَّ تضحك؟ قال: هكذا ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: مم تضحك يا رسول الله؟ قال: من ضحك رب العالمين حين قال: أتستهزئ بي وأنت رب العالمين؟ فيقول: إني لا أستهزئ منك، ولكني على ما أشاء قادر).

فالله عز وجل ضحك من حالة عبده، والنبي صلى الله عليه وسلم ضحك لأن الله ضحك، وأثبت ضحك الله عز وجل، وابن مسعود ضحك، وهناك أحاديث اسمها (الأحاديث المسلسلة) وهذا مسلسل بالضحك، مثل حديث علي بن أبي طالب في ركوب الدابة فإنه ضحك.

٥ - وكذلك من الأحاديث التي كان الضحك فيها معبراًُ عن شيءٍ مهم، ولم يكن ليضحك النبي عليه الصلاة والسلام عبثاً، ما جاء في صحيح البخاري في كتاب التوحيد: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (جاء حبر من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إنه إذا كان يوم القيامة جعل الله السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والماء والثرى على إصبع، والخلائق على إصبع، ثم يهزهن، ثم يقول: أنا الملك أنا الملك فلقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يضحك حتى بدت نواجذه تعجباً وتصديقاً لقوله) لقول هذا الحبر اليهودي.

فكان ضحك النبي عليه الصلاة والسلام هنا تعجباً وتصديقاً للحبر، ونفاة الأصابع نفاة الصفات يقولون: ضحك سخرية من هذا النقص الذي ألحقه الحبر بالله، والحديث يقول: تصديقاً لقول الحبر، كيف نقول: إنه ضحك منه لأنه نسب لله الأصابع، كما يقول نفاة الصفات؟! ٦ - وكان النبي صلى الله عليه وسلم يضحك من الفرح والاستبشار، فإذا بُشر بشيءٍ حسن ضحك، كما جاء في صحيح البخاري في كتاب الجهاد والسير، من حديث أم حرام بنت ملحان: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدخل عليها فتطعمه -وكانت أم حرام تحت عبادة بن الصامت - فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطعمته، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم استيقظ وهو يضحك -وغالب ضحكه عليه الصلاة والسلام تبسم- فقلت: وما يضحكك يا رسول الله؟ قال: ناسٌ من أمتي عرضوا عليّ غزاة في سبيل الله، يركبون ثبج هذا البحر ملوكاً على الأسرة فقلت: يا رسول الله! أدع الله أن يجعلني منهم، فدعا لها رسول صلى الله عليه وسلم أن يجعلها الله منهم).

٧ - ومن البشائر التي أضحكت النبي عليه الصلاة والسلام قصة الإفك، بعد الغم العظيم، والهم الطويل، والعذاب والأذى الذي لقيه النبي صلى الله عليه وسلم من قبل المنافقين شهر كامل هو وأهل بيته يعيشون في شدة وغم، أخذه ما كان يأخذه من البرحاء لما نزل الوحي حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق -اللؤلؤ- في يومٍ شات، فلما سُري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضحك، وهذا ضحك استبشار وفرحة بالوحي الذي جاء مفرجاً للهم العظيم الذي تراكم طيلة هذه الفترة على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آل بيته، فكان أول كلمةٍ تكلم بها أن قال لـ عائشة: (احمدي الله، فقد برأك) الحديث.

٨ - وضحك النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً لما بشره الله سبحانه وتعالى بنهر الكوثر، ولذلك جاء عن أنس قال: (بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا إذ أغفي إغفاءة، ثم رفع رأسه متبسماً، فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: أنزلت علي آنفاً سورةٌ، فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَر