[اتباع الواجب والمستحب من سنته صلى الله عليه وسلم]
أيها الإخوة! وإن من علامات طاعته واتباع سنته صلى الله عليه وسلم، أن ننتبه إلى مسألة يقع فيها كثير من المسلمين، يأتون إلى سنته عليه الصلاة والسلام فيقسمونها إلى واجب ومستحب، فيأخذون هذه الأقسام، ويقولون: أما الواجب من السنة فنفعله، وأما المستحب فنتركه، هذا التقسيم الذي وضعه علماؤنا وضعوه كتقسيم علمي، ما أراد العلماء رحمهم الله عندما بينوا الأحكام فقالوا: هذا واجب وهذا سنة، أي: ما قصدوا تخذيل الناس عن اتباع السنة، وتثبيط الهمم والعزائم عن الأخذ بالسنن، كلا والله وحاشاهم أن يكون مقصدهم هذا، إنما كان تقسيماً علمياً تتضح فيه الأمور.
ولذلك كما يقول ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين: كان السلف إذا عرفوا أن الرسول نهى عن أمر، لا يقولون: هل هذا نهي تحريم أو نهي كراهة.
لا يسألونه يقولون: هذا محرم أو مكروه، الآن كثير من الناس الذين يسألون عندما يأتي ويسألك فتقول له: إن رسول الله نهى عن هذا، أو إن هذا الأمر لا ينبغي فعله، فيقول لك: وضح لي، حرام أو مكروه، فإذا قلت له: حرام ربما يستجيب، وإذا قلت له: مكروه، يقول: إذاً الحمد لله، في سعة نفعل هذا الشيء.
ما كان حال السلف إذا أخبروا أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بأمر يقولون: هل هذا الأمر واجب أو مستحب؟ ويحرصون على المعرفة لكي يخرجوا بعد ذلك بفعل الواجب وترك المستحب، ما كانت هذه حالة السلف، متى علموا أن الرسول أمر بأمر بادروا بالتنفيذ، سواء كان أمر وجوب أو أمر استحباب، إذا علموا أن الرسول نهى عن أمر كانوا يبادرون للانتهاء عنه، ولا يفرقون بين محرم ومكروه، لا يفرقون في العمل.
هذه التفرقة هي التي دفعت بالناس إلى هذا الواقع المخزي؛ لأن الذي يتنازل عن السنن -أيها الإخوة- سيأتي عليه اليوم الذي يتنازل فيه عن الواجبات، والذي يفعل المكروهات سيأتي عليه اليوم الذي يفعل فيه المحرمات، إن للدين سياجاً يحوطه ويحميه، المستحبات تحمي الواجبات، والمكروهات تحمي المحرمات، سياج وسور، حمى يحمي هذا الدين.
وبالإضافة -أيها الإخوة- لهذه المسألة فإن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم تظهر بجلاء إذا اتبعت المستحب من سنته، أكثر مما تظهر المحبة عندما تتبع الواجب من سنته فقط؛ لأن أكثر الناس قد يتبعون الواجب، لكن القلة هم الذين يتبعون المستحب، ولذلك كثير من الناس عندما تأتي وتناقشه في أمر من الأمور، فتقول له: إن هذا الأمر واجب، فيقول: لا يا أخي ليس واجباً هذا سنة، اللحية مثلاً: النبي صلى الله عليه وسلم أوجبها، فيقول لك: لا.
هذه سنة، على فرض أنها كانت سنة، افرض جدلاً أنها سنة، لماذا لا تطبق؟ يا إخواني! أهل السوء الآن عندما يقتدون بالفجار والكفرة، هؤلاء المغنين والممثلين لهم قدوات في قطاعات كبيرة في مجتمعات المسلمين، فترى الناس يقلدون المغني أو الممثل في أدق الجزئيات، فيجعل تسريحة شعره مثل تسريحة شعر المغني، ووضع الجيوب في القميص والبنطلون، كوضع جيوب هذا المغني والممثل، وشكل الثوب والنعال ولون القميص، وكيفية الياقة وما شابه ذلك مثل المغني بالضبط يقلدونه، أليس كذلك؟ لنكن واقعيين أليست هذه هي الحالة؟ لو ظهرت موضة بين النساء، مجلة نشرت صور أزياء، ترى نساء المسلمين يتهافتن على التقيد الشديد بها، حتى أن إحداهن تعيب الأخرى لأنها خالفت جزئية من جزئيات تصميم الثوب، أليس كذلك؟ تقول لها: لا.
هذا ليس مثل الموضة، هذا فيه اختلاف في الكم والأزرار.
يا إخواني! إذا كان هذا حال التعساء والمغرورين، الذين غرهم الشيطان، إذا كان هذا حالهم مع الفجرة والقدوات السيئة، أفلا يكون حالنا نحن مع رسولنا صلى الله عليه وسلم القدوة المثلى والعليا التي أمرنا الله بالاقتداء به، أفلا يكون حالنا معه أن نتأسى ونقتدي بسنته في كل صغيرة وكبيرة، أليس كذلك؟ ألا يجب هذا؟ نعم.
ولكنهم في غفلة، ولكن الناس يظلمون أنفسهم، يقلد الكفرة في أدق الأشياء، عندما تقول له: هذا من فعل الرسول، يقول لك: هذه سنة وأنا لست ملزماً بها، عجباً لأحوال المسلمين، ولهذا الابتعاد والإعراض: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:٢١].
الله أرسل إلينا الرسول أيها الإخوة لكي نقول: نأخذ منه هذا وندع هذا، وهذه جزئية وقشور وأمور تافهة وجانبية، هل هذا ينم عن محبة صادقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ينبغي أن نتنبه لمثل هذا يا إخواني، وعلى الدعاة إلى الله بالشكل الأخص أن يقتدوا برسول الله في الكبيرة والصغيرة، والواجب والمستحب، حتى تظهر محبتهم له عليه الصلاة والسلام، وإلا فقل لي بربك ما الفرق بينهم وبين عامة الناس؟ والاقتداء به عليه الصلاة والسلام عامٌ، سواء كان في الأمور الشاقة أو في الأمور البسيطة، لو فعل رسول الله أمراً شاقاً على النفس كالقيام إلى صلاة الفجر مثلاً، فيجب علينا أن نقوم لصلاة الفجر ونتوضأ، حتى ولو كان الجو بارداً والماء بارداً، ينبغي أن نقوم ونسبغ الوضوء على المكاره، ونقوم إلى المساجد لصلاة الفجر، إذا كنا نحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما هو الحال في هذا الجانب، فإن اتباع رخصه عليه الصلاة والسلام، والأخذ بالرخص التي ترخص بها صلى الله عليه وسلم هو أيضاً من الأمور الواجبة، فالذي يقول مثلاً: أنا ما أقصر في صلاة السفر، لا آخذ بالرخصة، فنقول له: أنت مخطئ، وأنت على شفا هلكة وعلى ضلالة، إذا نبذت الرخصة، لاعتقادك بأنك أنت لا تفعلها، وإنما هي خاصة بالرسول.
وانظروا إلى هذا الحديث الذي روته عائشة رضي الله عنها عند الشيخين: (صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً ترخص فيه، فتنزه عنه قوم -قالوا: لا.
نحن لسنا كالرسول لا نترخص- فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه -قام يخطب في الناس- ثم قال: ما بال قوم يتنزهون عن الشيء أصنعه، فوالله إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية) أنا أخشى الناس لله، يقول عليه الصلاة والسلام، لو كان هذا الأمر من خشية الله لفعلته، ولو كان واجباً لما تركته، فنقتدي أيها الإخوة بالرسول صلى الله عليه وسلم في جميع الأشياء، سواء كانت عزيمة أو كانت رخصة، سواء كان أمراً شاقاً أم صعباً، سهلاً أم عسيراً، نقتدي به عليه السلام، لا نفرق، لا نقول: نأخذ بالأصعب، ولا نقول: نأخذ بالأسهل، لا، نأخذ بما فعل الرسول، سواء كان سهلاً أو صعباً.
وكثيرٌ من المسلمين لا يدركون هذه القاعدة، ولذلك ترى الضلال، إما مذهب متشددين من الخوارج، وإما متساهلون متميعون من عامة المسلمين اليوم، الزم السنة سواء كان أمراً عسيراً أم يسيراً، الحج عسير فيه جهاد وإنفاق أموال وتعب، تذهب وتجاهد بنفسك، وقصر الصلاة في السفر، وجمع الصلاتين مع بعضهما، والمسح على الخفين والجوربين من الأمور السهلة والرخص التي أتى بها عليه السلام، تتبع السنة، الزم غرزه عليه الصلاة والسلام، ولذلك قال بعض العلماء: من ترك القصر في صلاة السفر، فقد أساء وتعدى وظلم نفسه.