كذلك -أيها الإخوة- إيجاد الأعذار والحيل التي يجابه بها كثيرٌ من الناس من ينصح لهم ومن يعلمهم ويرشدهم، كأنَّ همه هو عدم التطبيق، هو ألا يرضخ للنصيحة بأي سبب وبأي شكل وبأي وسيلة، ونفعل مثل ما فعل بنو إسرائيل مع موسى، فقد أتاهم موسى برسالة من ربهم {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً}[البقرة:٦٧] كيف استقبلوا هذه الرسالة، وهذا التكليف، وهذا الأمر؟ كيف استقبلوه؟ المفروض أنهم يبادرون إلى التنفيذ، لكن استقبلوه بأن قالوا:{أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً}[البقرة:٦٧] أنت الآن تستهزئ بنا نذبح بقرة؟! عجيب! وحي من عند الله ونبي جاد في كلامه يستقبلونه بالاستهزاء كما يستقبل اليوم كثيرٌ من المسلمين الأشياء التي تنصحهم وتحثهم عليها وتبينها لهم، يقول لك: ما هذا يا شيخ؟ لماذا تستهزئ بعقلي؟ هذا من الدين؟ هذا دين الإسلام لا يأمر بهذا وهذا ليس من الدين أصلاً، كما ذكر كثيرٌ منهم في مجالس تسمع هذه الكلمات، يقول: هذا ليس من الدين وأنت أتيت بدين جديد، من أين جئت بهذه الأشياء؟ أنتم الآن جالسون تعلمونا الدين وهذا الكلام، كل ما رأينا عليه آبائنا وأجدادنا غلط؟ لأن هذه أصلاً حجة الكفار:{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ}[الزخرف:٢٣] سهل أن نغير إلى المحرمات ونقع فيها، لكن صعب أنت نغير إلى الواقع الذي يرضاه الله عز وجل.
فلما جزم لهم موسى عليه السلام أنه غير مستهزئ بهم وأنه جاد، قال: أعوذ بالله من هذا الكلام {أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}[البقرة:٦٧] وفيه إشارة إلى أنكم أنتم الجاهلون، وهل ذبحوا البقرة لما أكد عليهم هذا الأمر؟ لا.
ماذا قالوا؟ بين لنا ما هي، ما أعطيتنا الأوصاف، والله أمرهم ببقرة، اذبحوا أي بقرة، لو ذبحوا أي بقرة لكفتهم.
وموسى عليه السلام يذهب إلى ربه يسأل ربه، ويأتيه الجواب {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ}[البقرة:٦٨] لا صغيرة ولا كبيرة هرمة إنها بقرة فتية {فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ}[البقرة:٦٨] هذه أوصاف هذه البقرة، ذبحوها؟ لا:{ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا}[البقرة:٦٩] أي شيء، المهم تأخير التنفيذ بأي عذر، أي سؤال، أي استفسار، أي تأخير، المهم ألا ننفذ.
{قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ}[البقرة:٦٩] ذبحوها؟ لا {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا}[البقرة:٧٠] بقر كثير وما زالت هذه الأوصاف غير كافية {وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ}[البقرة:٧٠] بعض المفسرين قالوا: إنهم استثنوا أخيراً، ولولا أنهم استثنوا بالمشيئة، لكانوا حرموا من الخير كله، وبعضهم قالوا: أن احتجاجهم بالمشيئة هنا مذموم، يعني: مثل احتجاج الناس تقول: يا أخي صل صل، يقول: إن شاء الله {وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ * قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا}[البقرة:٧٠ - ٧١] انتهت الأسئلة، ماذا يسألون بعد هذا؟ {قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ}[البقرة:٧١] الآن ذلك الكلام الذي ذهب كله ما هو؟ كان باطلاً، الآن جئت بالحق، ومع ذلك مع هذا الاعتراف {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ}[البقرة:٧١] يعني: كادوا ألا يفعلوا، وما ذبحوها إلا بزهق النفس وما كادوا يفعلون.
وفرق أيها الإخوة بين من ينفذ أمر الله عن حبٍ لله وطواعية نفسٍ منه، وبين من ينفذه من وراء أنفه كأنك تأخذه منه، إذا نفذ هذا الذي تقول له كأنك تسلب منه ملكاً عزيزاً على نفسه، هذه المعاذير والأشياء التي يتعذر بها كثيرٌ من الناس تدل على أنهم المتلاعبين، أين الجدية؟ لو كان عندهم جدية، لكانوا نفذوا لأول وهلة وما جلسوا يعتذرون بالمعاذير والكلام الفارغ.