[أهمية الصبر]
الصبر له أهمية عظيمة، فالذي يتدبر آيات الكتاب العزيز يجد جانباً كبيراً من هذه الأهمية، فتجد أن الله عز وجل، كما يقول الإمام أحمد رحمه الله: عظم أمر الصبر في القرآن جداً، فأمر به في قوله: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل:١٢٧] ونهى عن ضده، فقال: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} [آل عمران:١٣٩]، وقال: {وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [الأحقاف:٣٥] نهى عن ضد الصبر، وعلق الفلاح على الصبر، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:٢٠٠] وأخبر عن مضاعفة الأجر للصابرين بأضعاف مضاعفة وبغير حساب، فقال تعالى: {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا} [القصص:٥٤] بل إنه يضاعف بغير حساب، كما قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:١٠].
قال أحد السلف: كل عمل يعرف ثوابه إلا الصبر؛ لأن الله قال: {بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:١٠] ولذلك كان أجر الصوم غير مقدر، كما يقول الله في الحديث القدسي: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به) لأن الصوم يتعلق أساساً بالصبر؛ وهو عبارة عن حبس النفس ومنعها عن الطعام والشراب والجماع والغيبة إلى آخره، بل إن الله علَّق الإمامة في الدين، على الصبر واليقين، كما قال الله عز وجل: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} فإن الله عز وجل جعل طائفة من الناس أئمة؛ يأتم بهم الناس ويقتدون بهم {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} [السجدة:٢٤] فإذا أراد أحد منا أن يكون إماماً للناس يقتدى به، فعليه أن يأخذ بالصبر بالدرجة الأولى {وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:٢٤] ولذلك كان من أقوال ابن تيمية رحمه الله: "بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين".
بل إن الله جعل للصابرين ظفراً ليس مثله ظفر، وهو: الظفر بمعيته عز وجل، فقال: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:١٥٣].
وجمع للصابرين ثلاثة أمور لم يجمعها لغيرهم، وهي: ١ - صلاة منه عليهم.
٢ - رحمته لهم.
٣ - هدايته إياهم.
ما هو الدليل؟ {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:١٥٥ - ١٥٧] فجمع لهم ثلاثة أشياء ما جمعها لأحد غيرهم: صلوات من ربهم، ورحمة، واهتداء.
وكذلك جعل الله الصبر عوناً لنا، فقال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:٤٥] فجعله عوناً وزاداً وسلاحاً.
وعلق النصر على الصبر، فقال عز وجل: {بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةُ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران:١٢٥]، ولذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (واعلموا أن النصر مع الصبر).
وأخبر سبحانه وتعالى أن الملائكة تسلم على المؤمنين في الجنة لصبرهم، فقال سبحانه: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:٢٣ - ٢٤] صبرتم على ماذا؟ صبرتم على الطاعة، وعن المعصية، وعلى أقدار الله تعالى، وعلى المصائب.
وكذلك جعل الله أهل محبته هم أهل الصبر، فقال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:١٤٦].
وأخبر أن خصال الخير لا تجتمع ولا تعطى ولا تلقى إلا للصابرين، جاء في موضعين في القرآن، يقول الله عز وجل في قصة العلماء الذين كانوا من بني إسرائيل وكانوا صالحين وهم من قوم قارون: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} [القصص:٨٠].
وكذلك قال عز وجل عمن صار بينه وبين أحدٍ عداوة فعامله بالحسنى، قال: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:٣٥].
إذاً: خصال الخير كلها تجتمع في الصابرين.
وأخبر عز وجل بأنه لا ينتفع بآياته إلا أهل الصبر، فقال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [إبراهيم:٥].
والله عز وجل قرن بين الصبر وبين أشياء عظيمة، عندما تجده مقترناً بشيء عظيم فإن هذا يدل على عظمته هو، فقرن الله الصبر بالتقوى، وقرن الصبر بالعمل الصالح، وقرن الصبر بالمرحمة، فمن اقتران الصبر بالتقوى قوله عز وجل: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران:١٨٦]، وقال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ} [يوسف:٩٠]، وكذلك قرن الله الصبر بالوحي، فقال: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [يونس:١٠٩]، وقرن بين الرحمة والصبر فقال عز وجل: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} [البلد:١٧].
وبالنسبة للصبر والرحمة فهذه الأشياء لو اجتمعت فيكون أنواع الناس في الصبر والرحمة أربعة أنواع: ١ - أن يصبر ولا يرحم.
٢ - أن يرحم ولا يصبر.
٣ - أن يصبر ويرحم.
٤ - ألا يصبر ولا يرحم.
يقول ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى كلاماً جميلاً عن هذه الآية: إذ من الناس من يصبر ولا يرحم كأهل القوة والفساد، فهم يصبرون ويجالدون لكنهم لا يرحمون.
ومنهم من يرحم ولا يصبر كأهل الضعف واللين، مثل كثير من النساء ومن يشبههن.
أي: أن من طبيعة النساء أنهن يرحمن ولكن لا يصبرن؛ فقد تجد المرأة فاسقة والعياذ بالله، لكن إذا رأت طفلاً يحتاج إلى إرضاع وجائع رحمته وأرضعته، وقد تكون ممن لا تصبر على الفواحش؛ وهذه خصلة في المرأة أكثر من الرجل ينبغي على المرأة الانتباه إليها أنها قد ترحم ولكن لا تصبر، فلا تعتبر نفسها إذا رحمت أنها بخير إذا كانت من غير أهل الصبر، يجب عليها أن تجمع إلى رحمتها الصبر.
ومنهم من لا يصبر ولا يرحم كأهل القسوة والهلع.
أناس عصاة يصبرون لأن عندهم جلد لكن عندهم هلع لا يصبرون أيضاً.
قال: والمحمود هو الذي يصبر ويرحم.
والصبر -أيها الإخوة- هو زادٌ في طريق الدعوة إلى الله تبارك وتعالى، كما قال صاحب الظلال رحمه الله.
الصبر على أشياء كثيرة، الصبر على شهوة النفس ورغباتها وأطماعها ومطامحها وضعفها ونقصها وعجلتها ومللها من القريب، أي: أن النفس تميل بسرعة.
الصبر يكون في مجالات كثيرة من أعظمها: الصبر عن شهوة النفس، وكذلك: الصبر عن شهوات الناس ونقصهم وضعفهم وجهلهم وسوء تصورهم وانحراف طبعهم وأثرتهم وغرورهم والتوائهم واستعجالهم الثمار.
إذا كنت داعية تدعو إلى الله عز وجل لا بد أن تصبر على ما تواجهه من الناس؛ لأنك ستواجه أشياء كثيرة، منها: الشهوات: رجل عنده شهوة المال، فإذا دعوته لا يستجيب، وآخر عنده شهوة محرمة فلا يستجيب لك، ويصمم على النظر إلى المرأة الأجنبية والاستمتاع والتلذذ بالمحرمات، وإنسان عنده شهوة منصب لا يستجيب لك؛ وشهوة المنصب تحمله على الغرور، وعلى التعسف، وعلى رفض الحق الذي تدعو إليه، وهم عندهم جهل، تأتي تناقش بعضهم بأشياء فتجده في غاية الجهل، فتجد مِنْ نفسك أنه لا بد أن تقطع مشواراً طويلاً حتى توصل هؤلاء الناس إلى جانب من العلم لا بد لهم منه، فإذا ما صبرت على جهلهم وأحياناً يفعلون أشياء عجيبة جداً، فإذا ما صبرت نفسك على جهل هؤلاء، فإنك ستيئس من دعوة أولئك الناس.
وكذلك سوء تصورهم: الناس عندهم سوء في التصور؛ تصوراتهم في العقيدة تصوراتهم في القضاء والقدر تصوراتهم في مغفرة الله ورحمته تصورات سيئة في أشياء كثيرة جداً، فلا بد من الصبر على سوء تصور الناس، وبعضهم عندهم غرور، والتواءات نفسية، ومزالق، تأتي للواحد من اليمين يذهب في الشمال، تأتي من هنا فيذهب من هناك، يروغ منك كروغان الثعلب، لا بد من الصبر على التواءات الناس.
وكذلك الصبر على تنفش الباطل، ووقاحة الطغيان، وانتفاش الشر، وغلبة الهوى، وعلى تصعير الغرور والخيلاء، فإن الإنسان إذا رأى انتفاشة الباطل ولم يكن عنده صبر، فإن هذا الأمر سوف يُؤدي به إلى اليأس والقنوط، وفقد الأمل تماماً في الوصول بالأمة إلى المرتبة التي يريدها الله عز وجل.
والصبر على قلة الناصر، وضعف المعين، وطول الطريق، ووسواس الشيطان في ساعات القرب والضيق؛ وكل كلمة من هذه الكلمات تحتاج إلى دروس كاملة.
الصبر على قلة الناصر، هذه الأشياء التي يحس بها الدعاة إلى الله عز وجل وهم يدعون الناس؛ الناس كثرة في الشر، وهؤلاء الدعاة قلة من أهل الخير، فلا بد من الصبر على قلة الناصر، وضعف المعين، وطول الطريق؛ طريق الشر قصير وسهل، وطريق الخير طويل وشاق وصعب.
يعتريه وسواس الشيطان، شيء من النفس الأمارة بالسوء، وشيء من القرين ال