للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[علاقة العشق والتعلق]

وهناك علاقة خامسة: وهي علاقة قد تكون في خطورتها أخطر من النوع الذي ذكرناها الآن قبل قليل: وهي علاقة العشق والتعلق لدرجة أنه يحبه مع الله لا يحبه في الله، لدرجةٍ تصل إلى صرف أنواع من العبادة لهذا الشخص، وهذه مشكلةٌ تنشأ بسبب دوافع كثيرة، تكون بدايتها بسيطة، ولكنها تنمو وتنمو وتعظم وتكبر حتى تصبح العلاقة بين هذين الاثنين؛ بحيث أن كلاً منهما لا يستطيع أن يغيب الآخر عن ناظريه أبداً، فلابد أن ينظر إليه دائماً، وأن يتصل به باستمرار، وقد يكلمه الساعات الطويلة هاتفياً يومياً، والأدهى من ذلك أنه يفكر فيه في صلاته، وعندما يقول: إياك نعبد وإياك نستعين، ليس فكره مع الله ولكن مع ذلك الشخص!! وكأنه الهواء الذي يستنشقه، وأنه لو غاب عنه لحظةً واحدة يتألم جداً للفراق حتى يعود إليه، وهذا النوع من التعلق الشديد له درجات، قد تكون في بعضها غلو، وفي نهايتها شركٌ أكبر! وبعض الناس يستبعد هذين ويقول: كيف يحدث؟ ولكنه يحدث، وهنا نعود إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يحب المرء -لاحظوا أيها الإخوة الرسول صلى الله عليه وسلم كلامه وحيٌ، إن هو إلا وحيٌ يوحى، يوحى إليه صلى الله عليه وسلم، لم يقل: (وأن يحب المرء في الله) معنى العبارة صحيح، لكن لأن الله عز وجل الحكيم الخبير العليم يعلم بأنه تنشأ بين العباد علاقات ليست شرعية، وأن هذه العلاقات قد تكون قوية جداً، وأن الشيطان يلبس على بعض الناس؛ أن علاقتك يا فلان مع فلان أخوة في الله، ولكن الحقيقة ليست كذلك، وقد يزين لهم الشيطان القيام بشيءٍ من الطاعات مع بعضهما البعض، ولكن المسألة ما زالت في حقيقتها نوعٌ من العشق المذموم شرعاً، فمثلاً لكي يخرجان من دائرة الانتقاد أو نوع من وخز الضمير، فترى الواحد يقترح على الآخر: ما رأيك أن نقرأ الكتاب، نستمع شريطاً، نحفظ قرآناً، نقوم الليل سوياً، فيفعلان هذا فترةً من الوقت، أو بعضاً من الأحيان، ولكن ما زالت العلاقة في حقيقتها ليست أخوة في الله، وإنما يحاول كلٌ منهما أن يخدع نفسه وأن يظهر أمام نفسه وأمام الآخرين، أنها أخوة في الله، ولكن الحقيقة ليست كذلك، بل ربما لو جلسا يقرآن كتاباً لذهب فكر كل واحدٍ منهما في الآخر، ولم يفقه شيئاً مما يقرأ وهكذا.

فإذاً ما الذي يجرد لنا هذه الصور على حقيقتها ويظهرها واضحة وجلية، تحت مجهر الكشف عن الحقيقة؟ إنه هذه الفقرة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، قوله عليه الصلاة والسلام: (وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله) لاحظ الاستثناء القوي المسبوق بالنفي، وهذا أقوى أساليب الحصر في اللغة، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، نفي ثم استثناء، أقوى أساليب الحصر في اللغة، لماذا؟ لأن القضية موجودة بين العباد فعلاً، علاقات محبة بين العباد لكن ليست لله، كثيرة ومتنامية ومتشعبة، وكثيراً ما تكون مدمرة على بعض الأطراف، وكثيراً ما تفشل مجموعة أو تجمع إسلامي بأكمله، لأنها مرضٌ معدٍ في كثير من الأحيان، تحتاج إلى وقفات صارمة من جميع الأطراف، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في كتابه العظيم: الجواب الكافي وهذا الكتاب هو عبارة عن جواب على سؤال، كما يتبين لمن يقرأ المقدمة، لكن نحن أحياناً قد نقرأ فلا نستجمع الصورة الكلية للكتاب الذي نقرؤه إذا كان وحدة واحدة، الآن كتاب: الجواب الكافي وحدة متكاملة، لكن عندما لا يجتمع عند الإنسان يكون أشياء متناثرة، يتكلم أولاً: عن الدعاء، اللجوء إلى الله، أضرار الذنوب، قوم لوط، يتكلم عن بعض الناس الذين أهلكوا، ثم تكلم في النهاية عن قصص من العشق.

ولكن عندما تتأمل في منهج ابن القيم رحمه الله في الكتاب، فهو في الحقيقة عظيم لعلاج مشكلة العشق والتعلق، والسؤال الذي ورد إليه يدل عليه، وهو أن مصيبةً وقعت في إنسانٍ كادت أن توبقه وتهلك دنياه، تفسد عليه دنياه وآخرته، هذا آخر قسم تكلمنا فيه وذكرناه في أنواع العلاقات، هذه هي المشكلة التي سأل عنها ذلك الشخص ابن القيم رحمه الله فأجاب عليه بهذا الجواب، وهنا نلاحظ منهج العلماء -أيها الإخوة- في علاج المشاكل، ليس الكلام على نقطة معينة، وإنما الكلام عن نقطة تجمع الأشياء فأنت ترى أنه أولاً يقول له: إلجأ إلى الله، يبين الدعاء وأوقات الإجابة وما هي الأدعية المأثورة، ما هو الاسم الأعظم الذي إذا سُئل به أعطى، وإذا دُعي به أجاب!! وهكذا تتوالى، ثم يتكلم له عن أضرار الذنوب والفواحش، وأن عملك هذا عندما ترى مضاره، فإنك إذا كنتَ عاقلاً ينبغي أن تبتعد عنه، ذكر أشياء عجيبة في مظاهر الذنوب في كتاب: الجواب الكافي، وأتبعه بذكر قصة قوم لوط وماذا فعل الله بهم، لأن المسألة قد تؤدي إلى شيءٍ من هذا، وابن القيم رحمه الله، ليس إنساناً سطحياً في علاج القضايا، ولكنه رجل عميق وقد نقرأ ولا نفهم عمق الكلام تماماً، ولكن عندما يقرأ الإنسان عدة مرات يلوح له المنهج وترابط الكلام الذي ذكره، والقصص الواقعية ما قال فقط: الأدلة من القرآن والسنة، لا، وإنما نجد في كتاب الجواب الكافي قصصاً واقعية، قصة حمَّام منجاب، وقصة فلان، وقصة الذين ختم لهم بخاتمة سيئة مثلاً، وأن بعضهم كان متعلقاً بالمال، وبعضهم كان متعلقاً بامرأة، وبعضهم كان متعلقاً بشخص، وبعضهم كان متعلقاً بسلطان، وهكذا من الأشياء، فهو منهج ممتاز جداً، ليس فقط أن نستفيد منه في علاج مشكلة التعلق والعشق فقط، وإنما أيضاً في وضوح المنهج في علاج بقية المشاكل.

وذكر أنواعاً من العلاجات، وكان يذكر بقوة، ويطرح أُطروحات قوية في علاج هذه المشكلة، وكان يقول: فإذا كان الأمر كذلك فلا بد أن يبتعد أحدهما عن الآخر حتى يضطر أن يسافر إلى بلدٍ آخر بحيث لا يرى صاحبه ولا يقع له على خبر، ولا حسٍ ولا أثر، فإنه يفعل ذلك، ابتغاء السلامة في الدين.

تُحس أن العلماء المخلصين أصحاب الوعي بالواقع، طرحهم في علاج المشاكل طرح قوي، طرح جذري وطرح متكامل، بخلاف كثير من الحلول القاصرة التي نراها تُطرح لعلاج مشاكل قد تكون أصعب، الآن المشاكل أصعب مما كانت موجودةً من قبل.

فإذاً نحتاج -أيها الإخوة- لمزيد من الوعي والاطلاع، ولمزيدٍ من الإخلاص قبل كل شيء، حتى نصفي مشاكلنا كلها، وحتى نصل إلى مجتمع إسلامي نظيف خالٍ من الشوائب، وإلا فكيف ينصر الله قوماً قد تناوشتهم سهام الشياطين من كل جانب، وقد اعتورت فيهم أنواع الفواحش والمنكرات من كل جانب، كيف ينصرهم الله؟! وأنت قد رأيت من قول الله عز وجل: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا} [الروم:٤١].

كوارث الطائرات، والسفن، الكوارث الجوية، والبيئية، والتلوث، وفساد البحر، وأنواع من الحيوانات قد تنقرض وتزول، وأماكن خضراء قد تتحول إلى جرداء، وأماكن قد تغطى بالثلوج فتصبح الحياة فيها صعبة، وأمراض جديدة تنشأ في المجتمع لم تكن موجودة من قبل؛ من هذه الطواعين الموجودة الآن، التي لم يتوصل العلم بعد إلى حلٍ لها ولا إلى علاج، ولكن قد يروج اليهود أنهم قد اكتشفوا علاجاً وليس بعلاج، وأنواع القنابل والأسلحة الفتاكة التي تدمر الأرض والإنسان والحيوان، بل إنها تفسد الجو وتصبح المنطقة موبوءة، وانفجارات في أنابيب الغاز، وأشياء من الكوارث تحدث في جميع أنحاء العالم، وتصادم القطارات، والكوارث الجوية بين الطائرات، وغرق السفن، وفساد الثمار، ونوع من التفاح هذا فيه أشياء اكتشف أنها تؤدي إلى مرض السرطان وهكذا.

الآن كوارث في هذا القرن لم تكن موجودة بهذه الكثرة، لو راجعنا تاريخ البشرية لا توجد كوارث وفيضانات تبتلع آلاف البشر، وهزات أرضية، وخسفٌ وبراكين وأشياء عجيبة تحدث في العالم الآن، لو استعرضت التاريخ العالمي في هذه السنوات الأخيرة، تجده مملوءاً بالكوارث، لا تمضي نشرة أخبار إلا وفيها كارثة قد وقعت في صقع من الأرض، ما هو هذا الشيء؟ هو إما قوله عز وجل: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا} [الروم:٤١] انظر العموم الذي يسببه الفساد، نتيجة الابتعاد عن شرع الله: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم:٤١] ببعدهم عن شريعة الله، وعن الدين، وببعدهم عن منهج الله عز وجل: {بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا} [الروم:٤١] ليذوقوا وبال أمرهم، حتى يعلموا عاقبة الانحراف عن الشريعة، وحتى يعلموا ما هي أهمية تطبيق منهج الله في الأرض.

أيها الإخوة! لو أن منهج الله مطبق في الأرض الآن لما وجدتم هذه الكوارث وهذه المصائب، ولذلك عندما ينزل المسيح بن مريم، ويقوم معه الخليفة الصالح في الأرض، ويطبقان منهج الله، لن يكون هناك كوارث، حتى إن الولد يدخل يده في الحية فلا تضره، ويصبح الذئب في الغنم كأنه كلبها الحارس، ويستظل الناس بقحف الرمانة، فمن أين أتت البركة؟ كيف كانت الثمار فاسدة، وفجأة صارت الثمار مبروكة حتى إن الناس يستظلون بقحف الرمانة؟! إنه تطبيق منهج الله في الأرض!! نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم ممن يحلُ حلاله، ويحرم حرامه، ويؤمن بكتابه، ويطبق شرع الله في نفسه، ويحكم قانون الله في الأرض، ونسأله عز وجل أن يصلح نياتنا وذرياتنا، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم وصلى الله على نبينا محمد.