[العلماء والكرم]
خذ مثلاً كرم الزهري وهو يعد من كبار المحدثين، وهو الآن -إن شاء الله- في قبره تجري عليه الأجور أنهاراً إن شاء الله، فما من كتاب من كتب الحديث إلا وفي سنده محمد بن شهاب الزهري، هذا الرجل لم يكن فقط محدثاً وينفع الناس بالعلم، بعض الناس يتخيلون أن العالِم ليس عنده إلا العلم والفقه والحلال والحرام والأحكام والشروح، لا العلم وشخصية العالِم وطالب العلم أوسع من هذا بكثير، إنها خُلق وأدب.
يقول الليث: كان ابن شهاب من أسخى من رأيت، وكان يعطي كل من جاءه وسأله، حتى إذا لم يبق معه شيء تسلف من أصحابه فيعطيهم، حتى إذا لم يبق معهم شيء تسلف من عبيده، وربما جاءه السائل فلا يجد ما يعطيه فيتغير وجهه، فيقول للسائل: أبشر فسوف يأتي الله بخير، قال: فيقيض الله لـ ابن شهاب على قدر صبره واحتماله أحد رجلين: إما رجل يهدي له، وإما رجل يبيعه وينظره.
وكان -رحمه الله تعالى- ينفق على طلابه، يقول زياد بن سعد للزهري: إن حديثك ليعجبني، لكن ليست معي نفقة فأتبعك، فقال له الزهري: اتبعني أحدثك وأنفق عليك.
وكان يأتيه الأعراب في البادية يفقههم ويعظهم كان يقصد الأعراب، مثلما نقول الآن: عليكم بالقرى والهجر اخرجوا للقرى والهجر اشتغلوا بالدعوة إلى الله في البادية، هناك أناس فيهم جهل عظيم، بعضهم لا يحسن الفاتحة ولا تصح صلاته، ولا ولا إلخ.
وذات مرة ذهب إليهم واعظ، فوعظهم بعد الصلاة، فقال له إمامهم: يا شيخ، هل خروج الريح ينقض الوضوء؟ قال: نعم.
من نواقض الوضوء.
قال: والله لقد كان يخرج مني الريح وأصلي كل السنوات الماضية، وهو إمامهم، وربما سرد له أبياتاً من الشعر النبطي على أنها سورة من القرآن، أو أكمل لهم السورة بأبيات أو بأشياء من هذا الشعر.
كان الزهري -رحمه الله- يقصد الأعراب في البادية يفقههم ويعظهم ويقدم إليهم الطعام؛ لأن هؤلاء الأعراب جزء كبير من مفتاح السيطرة عليهم، يكون بإكرامهم وإعطائهم.
قال مالك بن أنس: كان ابن شهاب يجمع الأعراب، فيتذاكر بهم حديثه، يعيد الأحاديث فيستفيد هو، فإذا كان الشتاء شق لهم العسل وجاء بالزبد، وإذا كان الصيف شق لهم وجاءهم بالسمن، فجاءه أعرابي وقد نفذ ما في يده، فمد الزهري يده إلى عمامته؛ فأخذها عن رأسه فأعطاها للرجل، وقال: يا عقيل! أعطيك خيراً منها.
هذا تلميذه الخاص، ومثل هذا بينه وبينه خصوصية، قال: أعطيك خيراً من هذه.
وكان -رحمه الله تعالى- يقدم لطلابه كذا وكذا لوناً، ونزل الزهري مرةً بماء فشكا إليه أهل الماء أن لنا ثماني عشر امرأة عمرية، أي: لهن أعمار وليس لهن خادم، فاستلف ثمانية عشر ألفاً وأخدم كل واحدة خادماً بألف وقال عمرو بن دينار: ما رأيت الدرهم والدينار على أحد أهون منه على ابن شهاب، ما كانت عنده إلا بمنزلة البعر، وهل للبعر قيمة؟ فكذلك الدراهم والدنانير
ذر ذا وأثنِ على الكريم محمد واذكر فواضله على الأصحاب
وإذا يقال من الجواد بماله قيل الجواد محمد بن شهاب
أهل المدائن يعرفون مكانه وربيع ناديه على الأعراب
فهذا الكرم يفعل ما يفعله في اجتذاب النفوس، والطلاب إذا رأوا الشيخ يكرمهم اقتدوا به فأكرموا، وكان شعبة -رحمه الله- يُسمى أبا الفقراء، وكان صبيان الحي ينادونه: بابا بابا، هكذا ورد في كتب العلماء في سيرة شعبة، من كثرة ما كان يعطيهم، وكان يقول: والله لولا الفقراء ما جلست إليكم، فإني أحدث ليعطوا، وقال: لولا حوائج ما حدثتكم، ويقصد بالحوائج حوائج لنسوة ضعاف، وكان إذا قام في مجلسه سائل توقف عن الحديث حتى يُعطى السائل، وجاء مرة سائل فجلس فجأةً، فارتاب شعبة، وقال: ما شأنه؟ كيف جلس فجأةً؟ فقيل: ضمن عبد الرحمن بن مهدي أن يعطيه درهماً، قال له: اجلس وعلي درهم؛ ليمضي الشيخ في حديثه، وكان كريماً سخي النفس، وكان إذا ركب مع قوم في زورق دفع إيجار الزورق عنهم جميعاً.
وكان الخطيب البغدادي -رحمه الله- يتعاهد تلاميذه، يقول أحدهم وهو الخطيب التبريزي: دخلت دمشق، فكنت أقرأ على الخطيب بحلقته بالجامع كتب الأدب المسموعة له، وكنت أسكن منارة الجامع، فصعد إلي وقال: أحببت أن أزورك تصور الآن العالِم عندما يزور طالب العلم، كم تكون كبيرة وعظيمة في النفس! وهذا موقف تربوي عظيم، الأعلى يزور الأدنى، هذا الشيخ يزور تلميذه الساكن في منارة المسجد، أو قل الآن: في غرفة المؤذن أو غرفة الفراش، ربما يسكن فيها أحد هؤلاء قال: فتحدثنا ساعةً، ثم أخرج ورقة، وقال: الهدية مستحبة، اشتر بهذه أقلاماً، ونهض وذهب، ففتحتها فإذا خمسة دنانير مصرية، ثم إنه صعد مرةً أخرى ووضع نحواً من ذلك.
أحد المشايخ في هذا الزمن من الأفاضل، فقد أحد الطلاب نعاله عند المسجد، فخرج الطالب فما وجد النعال بعد الدرس؛ فعرف الشيخ، فأصر عليه أن يأخذه معه بسيارته إلى السوق، ودخل مكان النعال واشترى له نعالاً، ودفع الشيخ القيمة، وأصر على أن يدفع القيمة هو، وأعاده إلى مكانه.
أيها الإخوة: هذه المواقف وإن كانت قد تبدو بسيطة، لكن أثرها عظيم في النفوس، فإن التربية مواقف وتصرفات وكلمات ينفع الله بها وتستقر في النفوس.