ولا يفهم مما تقدم من الكلام أن الدين يأمرنا بترك الدنيا والأخذ بأسباب الرزق أبداً، بل إنه يأمرنا بالسعي والمشي {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ}[الملك:١٥] ولكن المقصود هو تقديم السعي للآخرة على العمل للدنيا، وأن يكون وقتنا في السعي للآخرة أكثر من وقتنا للسعي في الدنيا؛ لأن الله بدأ بالآخرة فقال:{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ}[القصص:٧٧] ثم قال: {وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}[القصص:٧٧]، وهو يقول في آيات الآخرة:{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ}[آل عمران:١٣٣]{سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ}[الحديد:٢١] ويقول في أمر الدنيا: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا}[الملك:١٥].
فأمر بالمسارعة والمسابقة في الآخرة وبالمشي في الدنيا، ومعلوم أن المسابقة والإسراع أشد من المشي، فعلم أنه لا بد من التزود للدار الباقية في هذه الدار الفانية، وكذلك فإن هذا الكلام لا يعني أبداً أن نترك الكفرة يخوضون فيها كما يشاءون، ويسعون فيها كما يريدون وإنما ننازعهم ونغالبهم، فإن الله أمرنا بمغالبتهم ومنازعتهم وجعل الله التدافع بين الكفرة والمسلمين من أسباب صلاح الأرض، ولولا التدافع لفسدت الأرض {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً}[الحج:٤٠]{وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ}[البقرة:٢٥١] ولكن الله يسلط من يشاء على من يشاء.
وكذلك فإن هذا الموضوع يعيننا على التهوين من أثر المصائب التي تحصل لنا، ويسلينا عما يصيبنا من الضيق في الأرزاق، يسلينا عما يصيبنا من قلة المال وضيق ذات اليد.
ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل مدخلنا في الدنيا حميداً، ومخرجنا منها حميداً، وأن يجعلنا ممن جعل حياتهم في الدنيا طاعة له.
اللهم ألهمنا رشدنا وقنا شر أنفسنا، اللهم آمنا في أوطاننا، اللهم آمنا في الأوطان والدور، وأصلح الأئمة وولاة الأمور.
اللهم ارزقنا شكرك يا عفو يا غفور، اللهم انصر المجاهدين، واكبت أعداء الدين، وأخرج اليهود من بيت المقدس أذلة صاغرين، يا رب العالمين! سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.