للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[قصة مرض الشيخ ابن عثيمين]

أما قصة مرض الشيخ رحمه الله: فقد سمعت منه وخلوت به مرة بعد مرضه، فقال لي: لما أحسست بالألم ظننته باسوراً، وكنت قد عملت عملية بواسير في الماضي، فظننتها مثلها، فلما زاد الألم راجعت المستشفى، وكنت أريد أن أكشف على عيني أيضاً؛ لأنني اشتكيت منها، فأجروا لي التحاليل، وأخبروني أني مصاب بالسرطان، وكان الشيخ يسميه المرض الخطير، ويرفض أن يسميه المرض الخبيث، ويقول: ليس في أفعال الله خبيث، وقد سألته بعد فترة بالهاتف عن الألم؟ فقال: يأتي ويذهب إلا في موضع المرض الأصلي الذي انتشر منه فإنه مستمر، فتأمل الشيخ كيف جلس شهوراً طويلة وهو يعاني من ألم مستمر وألم إضافي يأتي ويذهب وهو يدرس ويفتي ويعبد الله ويمارس عمله رحمه الله تعالى.

ولعل البعض قد لاحظ أن الشيخ أثناء فترة المرض كان يرفع صوته، فكأنه يتجلد ويظهر للناس أنه بخير، ولما كان يُعطى المسكنات؛ لأن المرض لما عرف أنه انتشر ولم يعد ينفع معه علاج، وقد رفع الأطباء أيديهم، وكان ذهاب الشيخ للسفر للعلاج تأكيداً لتقرير الأطباء أن المرض انتشر ورجع، ومعروف أنه ليس هناك علاج ينفع في تقدير الأطباء، ولا يوجد إلا المسكنات، فكان الشيخ -رحمه الله- يكره المسكنات كما قال لي أحد الأطباء الذين يعالجونه؛ لأنها تنومه وتعيقه عن قيام الليل والتدريس.

وكان له أمنية حدث بها أحد المشايخ، فقال: أنا أريد أن أموت وأنا قريب من الكعبة أنشر العلم، وكان الشيخ يرى أن نشر العلم من أعظم القربات عند الله، ولهذا اشتغل به، ولعل هذا الكلام أخذ من حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أراد الله عز وجل بعبد خيراً عسله، قيل: وما عسله؟ قال: يفتح الله عز وجل له عملاً صالحاً قبل موته ثم يقبضه عليه) رواه الإمام أحمد، ولذلك لما حصل للشيخ تعب إضافي في صبيحة اليوم التاسع والعشرين من رمضان وهو بـ مكة في الصباح قرر الأطباء نقله من الحرم إلى مستشفى جدة، وبالفعل تم نقله إلى هناك وأدخل العناية المركزة، وجلس قرابة خمس ساعات، وعندما جاء العصر تحسنت حالته شيئاً ما، فأصر رحمه الله أن يرجع إلى مكة، رغم محاولة الأطباء نهيه عن ذلك، فقال: لا تحرمونا هذا الأجر فهذه آخر ليلة في رمضان، وبالفعل رجع الشيخ إلى مكة ومعه الأطباء المرافقين، وأجلس في غرفته داخل الحرم، وأول ما دخل الغرفة طلب أن يتوضأ، وصلى المغرب والعشاء، وبعدما انتهى من الصلاة طلب أن يعدل الدرس، ثم ألقى الدرس في آخر ليلة، وقال: بما أن هذه الليلة متممة للثلاثين من رمضان فهذا آخر درس لهذا العام، فكان آخر درسٍ له رحمه الله، وبعد الدرس هذا قال للأطباء: كيف تحرمونني من هذا الأجر العظيم؟ كنتم تريدون أن تبقوني في جدة؟ ولما جلست مع الشيخ رحمه الله في المرض قلت له مسلياً: يا شيخ محمد! إن عشت فهو إن شاء الله خيرٌ لنا بهذه الفتاوى والدروس وما تنفع به الأمة، وإن رحلت فنرجو إن شاء الله أنما عند الله خيرٌ لك مما عندنا، وليس في الدنيا كبيرُ شيءٍ يؤسف على فراقه، الشيخ زاهد في الدنيا، متعلق بماذا؟! يأسف على ماذا؟! على العمائر والقصور والأموال؟! فقال لي: أقول كما قال عمر بن عبد العزيز فيما رواه البخاري: [إن للإيمان فرائض وشرائع وحدوداً وسنناً فمن استكملها استكمل الإيمان، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان] فإن أعش فسأبينها لكم حتى تعملوا بها، وإن أمت فما أنا على صحبتكم بحريص، ثم أشاح بوجهه، وقال لي: هيه كلٌ يريد الحياة.

والشيخ رحمه الله كان قلقاً في موضوع الفتيا، وسألته لما خلوت به عن العلماء الذين يُسألون -احتياطاً للمستقبل- فقال: إن هناك ناساً عندهم معلومات، قال: لكن أين الفقيه؟ المشكلة أين الفقيه الذي يجتهد ويستنبط؟ ثم أثنى على مجموعة من أهل العلم، منهم: الشيخ صالح الفوزان، والشيخ عبد الرحمن بن ناصر البراك وغيرهما، وكان شديداً في قضية التساهل على الذين يتساهلون ويفتحون للناس أبواباً مما يخالف الدين، وكان متألماً لهذا، وأن بعض هؤلاء لا تبرأ الذمة باستفتائهم.