للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[كثرة الاختلاط بالناس]

أيها الإخوة! إن كثرة الاختلاط بالناس اختلاطاً شديداً بحيث لا يبقى للإنسان وقت يتفرغ فيه لنفسه ولا يتفطن فيه لعيوبه، ولا يصلح فيه قلبه، كثرة الخلطة مسألة سيئة، يتسبب عن كثرة الخلطة، وإمتلاء القلب من دخان أنفاس بني آدم، حتى يسود ويسبب تشتت القلب، وتفرقه ويسبب الهم والغم، وإضاعة المصالح والاشتغال بقرناء السوء، وينقسم الفكر عند كثرة الاختلاط بالناس، الاختلاط غير الشرعي، يقسم الفكر في أودية مطالب هؤلاء المخالطين، يتقسم الفكر في أودية مطالبهم وإراداتهم فماذا سيبقى في القلب لله والدار الآخرة؟! وكم جلبت خلطة الناس من نقمة ودفعت من نعمة، وأنزلت من محنة، وعطلت من منحة، وأحلت من رزية، وأوقعت في بلية؟ وهل آفة الناس إلا الناس؟ وهل كان أضر على أبي طالب من قرناء السوء؟ فلم يزالوا به حتى حالوا بينه وبين كلمة توجب له سعادة الأبد، وهي كلمة التوحيد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على رأسه يقول: يا عم قل كلمة، كلمة حق أشفع لك بها عند الله، قل: لا إله إلا الله، وأبو جهل وغيره من عتاة قريش على رأسه من الجانب الآخر يقولون: تموت على غير ملة عبد المطلب، وهو يقول:

إني لأعلم أن دين محمد من خير أديان البرية دينا

لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحاً بذاك مبينا

فـ أبو طالب يعلم بأن دين محمد صلى الله عليه وسلم خير أديان البرية ديناً، لكن يمنعه عن قول لا إله إلا الله، الملامة أو حذار مسبة، أن يلومه قومه، أو يسبوه بعد موته، ويقولون: مات على غير ملة آبائه وأجداده، فهذه الخلطة الشنيعة سببت هذا الوبال الذي حل بـ أبي طالب، ألم يقل الله عن أناس من أهل النار يعتذرون فيقولون: {رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا} [الأنعام:١٢٨] فيقال لهم: {النَّارُ مَثْوَاكُمْ} [الأنعام:١٢٨] وهؤلاء الذين اتخذوا من دون الله أوثاناً مودة بينهم في الحياة الدنيا، كما قال الله عز وجل: {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [العنكبوت:٢٥].

اجتماع الناس في مودة على شيء لا يرضي الله، سيكفر بعضهم ببعض يوم القيامة على هذا الاجتماع الذي اجتمعوا عليه، وكثير من الناس الآن يلتقون على مودة، لكن أي مودة؟ {مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [العنكبوت:٢٥] اتخذوا من دون الله أوثاناً مودة بينهم في الحياة الدنيا، التقوا مودة، لكنها مودة شركية كفرية، مودة معاصٍ، وأهواء وشهوات، هذه الذي اجتمعوا عليها ففي يوم القيامة سيكفر بعضهم ببعض، ويلعن بعضهم بعضاً، فهذه الخلطة المحرمة، وهذه الخلطة بقرناء السوء هي التي ستردي صاحبها في نار جهنم، فيكفر بعضهم ببعض، ويلعن بعضهم بعضاً، ومأواهم النار وما لهم من ناصرين.

فإن قال قائل هل الخلطة أصلاً محرمة؟ وهل الإنسان مطالب أن يعيش وحدانياً ليس له صاحب ولا صديق؟ فنقول: أبداً ليس الأمر كذلك، فإن الإنسان خلق اجتماعياً بطبعه: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً} [النحل:٧٢] لتسكنوا إليها، وجعل الناس ذوي أشكال أو أرواح فيها تجاذب وفيها تنافر والناس يميل بعضهم إلى بعض، ويرتاح بعضهم إلى بعض، أقسام وجماعات وشيع، لكن لا بد أن نقول: إن الخلطة منها ما هو شرعي، مثل ما خاطب الله المؤمنين فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا} [النساء:١٣٦] والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (عليكم بالجماعة، فإن يد الله مع الجماعة) معناه: أن المسلم مطالب أن يكون في جماعة، إذا لم يكن في جماعة يشذ ومن شذ، شذ في النار.

وإذا لم يكن في جماعة فإن الذئب يأكل من الغنم القاصية؛ لأن الجماعة هي التي تقويه وتشد أزره وتغذي وريد إيمانه، وهي التي تشجعه، فيتقوى بعضهم ببعض، وتنعقد أواصر الأخوة في الله، إذاً: الجماعة الصالحة مطلوب من المسلم أن يختلط بها، ومطلوب من المسلم أن ينضوي تحت لوائها، ومطلوب من المسلم أن يكون فرداً من أفرادها، المجموعة الصالحة والرفقة الطيبة، لا بد من الاختلاط بها، فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه أو تجد منه ريحاً طيبة، فلا يمكن للإنسان أن يقول: إننا من أجل إصلاح القلوب ينبغي أن نعيش منفردين ولا نخالط الناس، لكن أين الخطأ وأين الخطر؟

الجواب

الخطر في مخالطة أهل السوء، والاجتماع بقرناء السوء، وهذه الوحشة التي تحصل من امتلاء القلب من دخان أنفاس بني آدم، الذين دائماً يسيرون على الخطأ ولا يتوبون إلى الله ولا يرجعون، هؤلاء أنفاسهم دخان ينعقد في القلب، فيعلون القلب من هذا النتن، ومن هذا الران، مالا يعلمه إلا الله.

فإن قال قائل: أعطنا ضابطاً يضبط لنا الأمور في الاختلاط الجيد والاختلاط الرديء فنقول: إذا خالطت الناس في الخير، كالجمعة والجماعات، والأعياد والحج، وتعلم العلم والجهاد في سبيل الله والنصيحة، فهذا اختلاط محمود بل هو مطلوب شرعاً، وينبغي عليك أن تفعل ذلك، وأن تعتزلهم في الشر وفضول المباحات، فإذا رأيتهم على لهو ولعب ومعاصٍ وفسوق، فلا يجوز لك أن تختلط بهم.

وإن قال قائل: إن الأوضاع اليوم لا تيسر لنا اجتماعاً دائماً على الخير، فإنني موظف في شركة، وطالب في مدرسة، وعضو في جامعة، وهذه الشركة، أو المدرسة، أو الجامعة، لا بد أن أذهب إليها، بحكم الدراسة والدوام، ولا بد أن أختلط بالطلبة والموظفين والناس الذين في ذلك المحل، وإنني تاجر وأختلط بالزبائن، فكيف أفعل؟ هل أترك هذه الأماكن لأن فيها سوءاً؟ فإن الأسواق فيها سوء، وكثير من المدارس قد يكون فيها سوء، والشركات فيها سوء، فهل أترك الخلطة في عملي في المستشفى أو الدائرة أو الشركة، وما إلى ذلك من أنوع أماكن التجمعات التي يتجمع فيها الناس لكي يعيشوا في وظائف، أو يعيشوا من الوظائف هذه في هذه التجمعات، هل أترك ذلك؟ فنقول: إن الاختلاط هنا أمر صار شبه مفروض عليك، ولا تستطيع أن تترك الاختلاط بهؤلاء الناس، في الشركة أو المستشفى، أو المدرسة، أو الجامعة أو السوق، فإذا دعتك الحاجة إلى خلطتهم، ولم يمكنك اعتزالهم وهم يفعلون أموراً من الشر؛ لأنك لن تعدم أحداً يدخن أو يغتاب أو يلعب الألعاب المحرمة، أو يأتي بمنكرات في المجلس الذي أنت فيه سواء في الشركة، أو الجامعة أو السوق أو المستشفى، أو المكان الذي أنت موجود فيه، ولا يمكن أن نقول للناس: عطلوا المستشفيات؛ لأن فيها اختلاطاً، وغادروا الشركات؛ لأن فيها مدراء سوء، واتركوا الجامعات؛ لأن فيها شللاً منحرفة، بل نحن مطالبون بالإصلاح ومطالبون بأن يكون لنا دور عملي نغير به الواقع، فيكون واقعاً يرضي الله عز وجل، فأنت طبيب في المستشفى، فلا بد أن تغير الواقع وتسعى في تغييره ليكون مرضياً لله، فتقاوم الاختلاط والسفور والخلوة المحرمة، وأنت طالب في المدرسة ينبغي أن تدافع المنكرات وتغير الواقع، وتقاوم قرناء السوء، وتقاوم الصورة المحرمة، والفلم المحرم الذي قد يجلب، والألعاب المحرمة، والنكت والطرائف المحرمة، وأنت في السوق ينبغي أن تقاوم البيوع المحرمة والتعامل الحرام مع الزبائن، والتحدث مع النساء مع تكسرهن في الكلام، ودعوتهن بالشهوات والمظاهر التي تجلب الشقاء للنفس، إذاً: نحن مهمتنا المدافعة وتغيير المنكر إلى ما يرضي الله عز وجل.

فإذا دعتنا الظروف لأن نكون مختلطين في هذا الواقع فماذا نفعل؟ لأن الواقع هذا قد يفسد القلب أو يقسيه، إنهم أناس لا يتورعون عن فعل الشر، وفي نفس الوقت لا يمكن أن نتركهم، ولا بد أن نختلط بهم في حكم عملنا، وهذا مجال كسب ووظيفة، ولا بد أن نكون فيه فما هو الحل؟ فإذا دعت الحاجة إلى خلطتهم وهم على أمور من المنكرات والشر، ولا يمكنك اعتزالهم أبداً -لأنه قد يمكن اعتزالهم في الشر- وإذا جاء وقت المباحات أو الخير اختلطت بهم، لكن إذا لم يمكن، فالحذر الحذر أن توافقهم على منكرهم وشرورهم، وأن تصبر على أذاهم، لأنك ستدعو وتواجه بأنواع من الأذى؛ لأنه لا يمكن للإنسان أن يدعو إلى الله ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر دون أن يلقى أذى، فإذا لم يجد الأذى معناه أن في سيره خطأ، إما أنه يداهن أو شيء من هذا القبيل، وإذا لم يجد في إنكاره أذى أبداً، فمعنى أن في إنكاره خطأ، طبعاً لا يشترط أن يكون الأذى كل مرة، فقد يجد قلباً متفتحاً وأذناً سامعة، وإنساناً مستجيباً ويثني عليه، فلا يشترط أن يجد الأذى كل مرة، ولكن في أحوال كثيرة، أو في بعض الأحيان، لا بد أن يجد شيئاً من الأذى، فالحذر أن توافقهم، واصبر على أذاهم.

وإذا دعتك الحاجة إلى خلطتهم في فضول المباحات، في أشياء من المباحات، فاجتهد أن تقلب ذلك المجلس طاعة لله، وأن تشجع نفسك على هذا الأمر وأن لا تستجيب للشيطان إذا قال لك هذا رياء، وأنت تريد أن تقلب المجلس إلى مجلس ذكر وأن تفتح مواضيع إسلامية، أنت مراءٍ، أنت تريد أن تبرز بينهم، على أنك أنت الشيخ وأنت الواعظ المذكر، وهذا رياء فلا تستجب للشيطان، وادع وذكّر: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:٥٥] واستعن بالله عليهم، وأخلص في عملك، فإن أعجزتك المقادير فلم تستطع أن تغير أو أن تقلب المجلس إلى مجلس ذكر، فماذا تفعل؟ قال: ابن القيم رحمه الله فيمن هذا شأنه: "فليسل قلبه من بينهم، سل الشعرة من العجين وليكن فيهم حاضراً غائباً، قريباً بعيداً، نائماً يقظاً، ينظر إليهم ولا يبصرهم، ويسمع كلامهم ولا يعيه؛ لأنه قد أخذ قلبه من بينهم ورقى به إلى الملأ الأعلى، وما أصعب هذا، وما أشقه على النفوس، وإنه ليسير على من يسره الله تعالى عليه".

أحياناً يضطر الإنسان أن يجلس في مجلس أو في مكا