وأيضاً -أيها الإخوة- من الأشياء التي تجلب المحبة: الانكسار بين يدي الله عز وجل والتذلل له والخضوع والإخبات والانطراح بين يديه والاستسلام له: فما أقرب الجبر من هذا القلب المكسور، عندما ينكسر الإنسان أمام الله، ويُظْهِر الضعف والاستكانة، فإن الله عز وجل يجبر هذا الكسر، ويقوي هذا الضعف، ويغني هذا الفقر، وما أدنى النصر والرحمة والرزق من حال الإنسان المتذلل الكسير أمام ربه الذي يُظْهِر ضعفه وحاجته ولجوءه إلى الله عز وجل.
يضرب ابن القيم رحمه الله مثلاً جميلاً لانطراح الإنسان أمام الله عز وجل، ثم إقبال الله على هذا الإنسان، يقول:" تأمل هذا الحال - وهذا الحال يُشْبِه ليس هو مثله بالضبط- فإن انطراح الإنسان وإقبال الله عليه كرجل كان في رعاية أبيه، يغذيه أبوه بأفضل الطعام والشراب واللباس، ويربيه أحسن التربية، ويرقيه على درجات الكمال أتم ترقية، فيبعثه أبوه في حاجة له، فيخرج عليه في الطريق عدو يأسر هذا الولد ويكتفه ويشد وثاقه، ثم يذهب به إلى بلاد الأعداء ويسومه سوء العذاب، ويعامله بضد ما كان أبوه يعامله أبوه، فهو يتذكر تربية أبيه، وإحسان أبيه، وبر أبيه به، وعطفه عليه، الفينة بعد الفينة -كلما يعذَّب يتذكر تلك الأيام- فبينما هو في أسر عدوه يسومه سوء العذاب ويريد نحره في آخر الأمر -يعني: ذبحه- إذ حانت منه التفاتة إلى ديار أبيه، فرأى أباه قريباً منه، فسعى إليه، وألقى نفسه عليه، وانطرح بين يدي أبيه، يستغيثه: يا أبتاه يا أبتاه يا أبتاه انظر إلى ولده وما هو فيه، ودموعه تستبق على خديه، قد اعتنقه أباه والتزمه وعدوه يسعى في طلبه حتى وقف على رأسه والابن منطرح متمسك بأبيه، فهل تقول أنت أيها الإنسان: إن والده يُسْلِمُه مع هذه الحال إلى عدوه ويخلي بينه وبين العدو؟! ".
إنسان اجتاله الشيطان عن طريق الله، كان يمشي في طريق الله، والله عز وجل منعم عليه، يطيع الله عز وجل, ويرغب إلى الله عز وجل بالطاعات ويفعلها، ثم اجتاله الشيطان -انتكس هذا الرجل- وذهب الشيطان به ينزله منزلة بعد المنزلة في العصيان حتى أوشك أن يهلكه ويقذفه في مهاوي الكفر والضلال، ثم إن هذا الرجل الذي أغواه الشيطان التفت وأحس بالله عز وجل قريباً منه ينتظر متى يتوب، فانقلع عن هذه الأشياء وفر من الشيطان وطرق الضلال إلى الله عز وجل معترفاً بذنبه مقراً، يطلب التوبة واللجوء إلى الله، هل يطرده الله عز وجل ويرده خائباً؟!