سعيد بن المسيب عالم أهل المدينة، الذي ما فاتته الصلاة أربعين سنة، وما أذن المؤذن ثلاثين سنة إلا وهو في المسجد، وحج أربعين حجة، وكان يكثر أن يقول في مجلسه: اللهم سلم سلم، ويسير الأيام والليالي في طلب الحديث الواحد، وكان جريئاً عزيز النفس، لما قدم عبد الملك بن مروان، وقف على باب المسجد، وأرسل إلى سعيد رجلاً يدعوه ولا يحركه، قال: لا تحركوه ادعوه لي فقط، فأتاه الرسول فقال: أجب أمير المؤمنين واقفٌ في الباب يريد أن يكلمك، فقال: ما لأمير المؤمنين إلي حاجة ومالي إليه حاجة، وإن حاجته لي لغير مقضية، فرجع الرسول فأخبره، فقال: ارجع وقل له: إنما أريد أن أكلمك ولا تحركه، فرجع إليه وقال: أجب أمير المؤمنين، فرد عليه مثل ما قال أولاً، فقال: الرسول لولا أنه تقدم إلي فيك ما ذهبت إليه إلا برأسك، يرسل إليك أمير المؤمنين يكلمك تقول مثل هذا، فقال: إن كان يريد أن يصنع بي خيراً فهو لك، وإن كان يريد غير ذلك فلا أحل حبوتي حتى يقضي ما هو قاض.
وعن قتادة قال: أتيت سعيد بن المسيب وقد ألبس تبان شعر، وأقيم في الشمس تعذيباً له، فقلت لقائدي - قتادة رجل ضرير لكن يطلب العلم ويأخذ عن سعيد بن المسيب - فقلت لقائدي: أدنني منه، فأدناني فجعلت أسأله - قتادة يسأل سعيداً وهو في الشمس يعذب- فجعلت أسأله خوفاً من أن يفوتني -أخشى أن يفوتني فيموت قبل أن أسأله ما في نفسي- وهو يجيبني حسبة والناس يتعجبون! أما قضيته في تزويج ابنته فهي مشهورة معلومة، فهي تضرب مثلاً للآباء الذين لا يضعون العراقيل أمام زواج بناتهم، ولا يغالون في المهور، ويرأفون بالشاب الصالح، كانت بنت سعيد قد خطبها عبد الملك لابنه الوليد، فأبى عليه مع أنه ابن الخليفة، فلم يزل يحتال عليه فأبى، حتى ضربه مائة سوط في يوم بارد، وصب عليه جرة ماء، وألبسه جبة صوف، فلم يرضخ، فهو ليس الرجل المناسب، وكان من تلاميذه كثير بن أبي وداعة، قال: كنت أجالس سعيد بن المسيب ففقدني أياماً، فلما جئته قال: أين كنت؟ قلت: توفيت زوجتي فاشتغلت بها، فقال: ألا أخبرتنا فشهدناها، ثم قال: هل استحدثت امرأة فقلت: يرحمك الله، ومن يزوجني ولا أملك إلا درهمين أو ثلاثة؟ قال: أنا، قلت: وتفعل؟ قال: نعم.
ثم تحمد، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، وزوجني على درهمين أو ثلاثة، فقمت وما أدري من شدة ما أصنع من الفرح، فصرت إلى منزلي، وجعلت أتفكر ممن أستدين، فصليت المغرب ورجعت إلى منزلي، وكنت صائماً، فقدمت عشائي أفطر، وكان خبزاً وزيتاً، فإذا بابي يقرع، فقلت: من هذا؟ قال: سعيد، ففكرت في كل من اسمه: سعيد إلا ابن المسيب، فإنه لم ير أربعين سنة إلا بين بيته والمسجد، فخرجت وإذا سعيد، فظننت أنه قد بدا له -يمكن غير رأيه- فقلت: يا أبا محمد ألا أرسلت إلي فآتيك، قال: أنت أحق أن تؤتى؛ إنك كنت رجلاً عزباً، فتزوجت وعقدنا لك، فكرهت أن تبيت الليلة وحدك وهذه امرأتك، فإذا هي قائمة من خلفه في طوله من خلف الباب، ثم أخذ بيدها فدفعها في الباب ورد الباب، فسقطت المرأة من الحياء، فاستوثقت من الباب، ثم وضعت القصعة في ظل السراج لكي لا تراه فأول عيشتها خبز وزيت، ثم صعدت إلى السطح فرميت الجيران، فجاءوني فقالوا: ما شأنك؟ فأخبرتهم ونزلوا إليها، وبلغ أمي فجاءت وقالت: وجهي من وجهك حرام إن مسستها قبل أن أصلحها إلى ثلاثة أيام، فأقمت ثلاثاً، ثم دخلت بها فإذا هي من أجمل الناس، وأحفظ الناس لكتاب الله، وأعلمهم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعرفهم بحق الزوج -هذه تربية العلماء لأولادهم وبناتهم، هذه تربية العلماء لبناتهم- فمكثت شهراً لا آتي سعيداً -يأخذ عن بنت سعيد الآن- ثم أتيته وهو في حلقته، فسلمت، فرد عليَّ السلام، ولم يكلمني حتى تقوض المجلس، فلما لم يبق غيري قال: ما حال الإنسان؟ قلت: خير يا أبا محمد، على ما يحب الصديق ويكره العدو، قال: إن رابك شيء فالعصا، فانصرفت إلى منزلي فوجه إلي بعشرين ألف درهم، قال عبد الرحمن بن حرملة: دخلت على سعيد بن المسيب وهو شديد المرض، وهو يصلي الظهر وهو مستلقٍ يومئ إيماءً، فسمعته يقرأ بالشمس وضحاها.