[إطلاقه رضي الله عنه وإسلامه]
قال: أطلقوا ثمامة، قال: قد عفوت عنك يا ثمامة وأعتقتك.
وهذا في رواية ابن إسحاق، وجاء فيها: أن المسلمين قد جمعوا له من طعام ولبن، فقدموه إليه فلم يصب من ذلك إلا قليلاً.
ولما أُطلق الرجل لم يرجع إلى قومه؛ لأن ما شاهده من المشاهد كفيل بأن يجعل الهداية تدخل إلى قلبه، فذهب واغتسل وأسلم ونطق بالشهادتين، ثم بشره النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة ومحو ذنوبه وتبعاته السابقة، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عما أحس به من محبة النبي صلى الله عليه وسلم، ومحبة دينه، ومحبة بلده، فانقلب البغض إلى حب وانقلبت الكراهية إلى محبة، واتضح من خلال التأثير كيف تنقلب مشاعر المدعو عكس ما كانت عليه.
لو وُجد المدعو في بيئة سليمة، وتعرض لمؤثرات صحيحة، ووُجد في جو طيب فإنه يتأثر، وهكذا حصل لـ ثمامة، حينما ربط في هذا المكان فتأثر وانقلبت مشاعره، فإنه كان يكره النبي عليه الصلاة والسلام، ويكره دينه، ويكره بلده، فصار أحب الوجوه إليه وجهه عليه الصلاة والسلام، وأحب البلاد بلده، وأحب الدين إليه دينه، زد على ذلك أن المنَّة التي مَنَّ بها عليه الصلاة والسلام على هذا الرجل قد أثَّرت فيه، منَّةٌ شكرها هذا الرجل، وكان شكره الإسلام، فقد أسلم وتابع النبي عليه الصلاة والسلام.
لقد كان مفهوم المسلمين في السابق للإسلام أمراً عجيباً، حتى مع أنهم حديثو عهد به، فإن هذا الرجل كان سيد قومه، وهو مشرك كافر، أخذ ووضع في المسجد، وفي هذه الأيام الثلاثة رأى المجتمع الإسلامي من الداخل، وقد كان هناك إشاعات كثيرة عن النبي عليه الصلاة والسلام وعن المسلمين، يطلقها اليهود والمنافقون ومشركو قريش وغيرهم، ولكن الآن رأى ثمامة بأم عينيه المجتمع الإسلامي من الداخل، ورأى النبي عليه الصلاة والسلام بنفسه وشخصه، لقد زالت كل الهالات الإعلامية السيئة التي نسجها الكفار حول المسلمين، وحول الدعوة، وحول النبي عليه الصلاة والسلام، لقد رأى ثمامة الصورة الحقيقية من الداخل.
ثم صادف ذلك الإنعام من النبي عليه الصلاة والسلام بأن مَنَّ عليه وأطلقه دون قيد ولا شرط، ولا فدية ولا مقابل، إنه كرم نبوي، حيث قال: أطلقوا ثمامة، فهذه الأشياء مجتمعة أثرت في الرجل؛ فقلبت مشاعره، والذي نريد أن نقوله: إن الدخول في الدين ليس فقط كلمة تنطق، بل هو تغيير جذري في المشاعر، لا يؤمن حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ولا يؤمن حتى يحب المرء لا يحبه إلا لله، ولا يؤمن حتى يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار.
إذاً عملية الدخول في الإسلام والهداية تُحدِث تحولات في المشاعر، فليست القضية قضية نطق بالكلام أو عبارات، وليست شعائر تؤدى بالجسد، وإنما تغيير داخلي -أيها الإخوة- في القلب، وفي الأحاسيس، وفي المشاعر؛ فينقلب الكره حباً، والبغضاء وداً، وهكذا حصل لـ ثمامة رضي الله عنه.
هل انتهت القضية على هذا؟ هل هذا هو الذي ولدّه الإيمان فقط؟ لا.
فالرجل عندما أسلم كان يريد أن يؤدي عمرة، وما حكم العمرة التي كان يريد أن يؤديها؟ عليه أن يستمر في عمل الخير، فإن العمرة عمل خير، والمشركون كانوا يعتمرون ويحجون لكن على مذهبهم الباطل وعلى عقيدتهم الباطلة، فيطوفون حول أصنام الكعبة، وقريش كانت تذهب إلى مزدلفة ولا تتجاوزها؛ لأنهم يقولون: نحن من الحمس، أي: أهل الحرم فلا نتعدى الحرم مثل بقية الناس إلى عرفات، وكان بعضهم يطوف بالبيت عرياناً، فالحج والعمرة كان على مذهبهم الفاسد.
فهذا الرجل أسلم وكان يريد أن يؤدي عمرة، فقال: يا رسول الله! إن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة، فماذا ترى؟ تصور أن زعيماً من زعماء الكفار يسلم ثم يأتي مباشرة ليستفتي! وليس من السهل على زعيم قبيلة أو عشيرة، أو سيد مطاع في قومه أن يأتي ليسأل ويستفتي، لكن كان دخول الصحابة في الدين انقلاباً شاملاً في النفس، يقلب كيان الرجل، فلما سأل النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يعتمر.
إذاً إذا كان الكافر يريد أن يعمل عمل خير قبل الإسلام وأسلم؛ فإنه يستمر في عمل الخير الذي كان يريد أن يعمله.