كذلك فإن الحافظ أبا الوقت عبد الأول السجزي الهروي رحمه الله تعالى كان من مشاهير الذين طوفوا البلدان، قال أحد تلاميذه: لما رحلت إلى شيخنا ومسند العصر أبي الوقت قدر الله لي الوصول إليه في آخر بلاد كرمان فسلمت عليه، وقبلته، وجلست بين يديه، فقال لي: ما أقدمك هذه البلاد؟ قلت: كان قصدي إليك، ومعولي بعد الله عليك، وقد كتبت ما وقع علي من حديثك بقلمي، وسعيت إليك بقدمي.
فقال: وفقك الله وإيانا لمرضاته، وجعل سعينا له وقصدنا إليه، لو كنت عرفتني حق معرفتي لما سلمت علي -هذا من تواضعه- يقول: لو عرفتني على الحقيقة ما سافرت إلي ولا جلست بين يدي، ثم بكى بكاءً طويلاً وأبكى من حضره، ثم قال: اللهم استرنا بسترك الجميل، ثم قال: يا ولدي! تعلم أني رحلت أيضاً لسماع الصحيح ماشياً مع والدي من هراة إلى بوشنج ولي من العمر دون عشر سنين.
هذا أبوه علمه الرحلة في طلب الحديث، أخذه وعمره عشر سنين، قال: فكان والدي يضع على يدي حجرين -يقول: وأنا عمري عشر سنين كان والدي يعطيني حجرين أحملهما في السفر- أمشي وهو يتأملني، فإذا رآني قد عييت أمرني أن ألقي أحد الحجرين فألقيه فيخف عني فأمشي، إلى أن يتبين له تعبي، فيقول: هل عييت؟ فأخاف وأقول: لا.
فيقول: لم تقصر في المشي؟ فأسرع ساعة ثم أعجز، فيأخذ الحجر الآخر فيلقيه فأمشي حتى أعطب، فحينئذ يأخذني ويحملني، وكنا نلتقي جماعة الفلاحين، فيقولون: يا شيخ عيسى! ادفع إلينا هذا الطفل نركبه وإياك إلى بوشنج.
فيقول والدي: معاذ الله أن نركب في طلب أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بل نمشي.
وهكذا كانوا من الصغر يتعلمون على الرحلة في طلب الحديث، فلا غرابة إذاً إذا كبروا أن يفعلوا ذلك.