للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أبو عبيد وشدة إجلاله واحترامه لابن المديني]

دخل أبو عبيد القاسم بن سلام -أحد شيوخ ابن المديني - دار أحمد بن حنبل زائراً إياه، وعنده جماعة من المحدثين فيهم: علي بن المديني ويحيى بن معين، فطلبوا من أبي عبيد أن يقرأ عليهم كتاب غريب الحديث على الوجه -أي: بالأسانيد- فقال لهم أبو عبيد: ما قرأته إلا على المأمون، فإن أحببتم أن تقرءوه فاقرءوه.

فقال له علي بن المديني: إن قرأتَه علينا، وإلا فلا حاجة لنا فيه.

ولم يكن أبو عبيد يعرف علي بن المديني.

فقال لـ يحيى بن معين: من هذا؟ قال: هذا علي بن المديني، فالتزمه وعانقه وقرأه عليه؛ لأن علي بن المديني سمعته معروفة، وأبو عبيد يسمع ويعرف من هو علي بن المديني من بعيد، لكنه ما سبق أن قابله، فلما عرفه رضخ لطلبه وقرأه عليه وهو شيخه.

فهذا من تمكن مكانة علي بن المديني في قلب أبي عبيد القاسم بن سلام، والإكبار له من قبل شيخه، وأبو عبيد القاسم بن سلام رجل عظيم لا يستهان به ألبتة، ومن نوادره -ولعلنا نأتي على سيرته -أن طاهر بن عبد الله - وهو أحد الأمراء في الدولة العباسية بـ بغداد، أراد أن يسمع من أبي عبيد -كان الولاة لهم اهتمام بالعلم- وكان حريصاًَ أن يأتي أبو عبيد إلى منزله، فيحدثه، وكتاب أبي عبيد الذي هو غريب الحديث كتاب اشتُهِر، فيه شرح للألفاظ الغريبة والصعبة في الأحاديث، يسوق أبو عبيد الحديث بسنده ويشرح الغريب في هذا الكتاب، وكان قد تعب عليه وجمعه وهو كتاب نفيس، من أجود الكتب في غريب الحديث، هذا الوالي كان يشتهي أن هذا العالم أبو عبيد مؤلف الكتاب يأتي بكتابه ويحدث به في بيته، يشتهي ذلك ويتمناه، فأرسل إلى أبي عبيد معرباً له عن الرغبة، يقول: يدعوك الأمير إلى بيته لتأتي وتجلس فيه وتحدث بكتابك غريب الحديث، فرفض أبو عبيد، وقال: أبداً، هو يأتي، مثله مثل غيره من الطلاب ويجلس في الدرس العلم يؤتى ولا يأتي.

فلما جاء علي بن المديني وعباس العنبري، إلى بلد أبي عبيد، وأرادا أن يسمعا غريب الحديث، كان أبو عبيد يحمل كتابه كل يوم ويأتيهما في منزلهما يحدثهما.

وقد علق الخطيب على هذه القصة، فقال: إنما امتنع أبو عبيد من المضي إلى منزل طاهر توقيراً للعلم، ومضى إلى منزل ابن المديني وعباس تواضعاً وتديناً.

وقد فعل سفيان الثوري مع إبراهيم بن أدهم مثل هذا، فهذه من عجائب العلماء.

ويحيى بن معين سئل عن علي بن المديني وعن الحميدي: أيهما أعلم؟ فقال يحيى بن معين: ينبغي للحميدي أن يكتب عن آخر، عن علي بن المديني.

أي: لا يصلح حتى أن يكون تلميذاً، بل تلميذ التلميذ.

وقال الأعين: رأيت علي بن المديني مستلقياً وأحمد بن حنبل عن يمينه، ويحيى بن معين عن شماله وهو يملي عليهما.

وكان أحمد بن حنبل رحمه الله لا يسمي علي بن المديني، أي: لا يقول: يا علي، بل يقول: يا أبا الحسن! توقيراً له وتبجيلاً.

قال أبو حاتم: ما سمعت أحمد بن حنبل سماه قط.

وكان علي بن المديني كما يقول عباس العنبري رحمه الله: بلغ ما لو قُضِي له أن يتم على ذلك، لعله كان تقدم على الحسن البصري، كان الناس يكتبون قيامه وقعوده ولباسه، وكل شيء يقوله ويفعله.

وهذا فيه فائدة تربوية مهمة: وهي أن الإنسان إذا صار قدوة، الناس لا يأخذون عنه العلم فقط، بل يأخذون عنه كل الحركات، ويتأثرون بصَمْتِه وكلامِه وأفعالِه وتصرفاتِه، وفي كل شيء، كان الناس يكتبون قيامه وقعوده ولباسه وكل شيء يقول ويفعل، لأنه صار أهلاً أن يُنْظر إليه في كل أفعاله، وليس فقط فيما يخرج منه من الكلام.

وقال أبو يحيى: كان ابن المديني إذا قدم بغداد تصدَّر وجاء يحيى وأحمد بن حنبل والمعيطي والناس يتناظرون، فإذا اختلفوا في شيء، تكلم فيه علي.

وقال محمد بن إسماعيل البخاري: ما تصاغرتُ نفسي عند أحد إلا عند علي بن المديني.

وقال: ما سمعت الحديث من فِيِّ إنسانٍ أشهى عندي من أن أسمعه من فِيِّ علي رحمه الله.

وقال محمد بن إسحاق السراج: سمعت محمد بن إسماعيل البخاري وقلت له: ما تشتهي؟ قال: أشتهي أن أقدم العراق وعلي بن المديني حيٌّ فأجالسه.

ولما ألف البخاري كتابه صحيح البخاري، عرضه على علي بن المديني، فحكم له بالصحة والإتقان - البخاري عرض كتابه على ثلاثة من كبار العلماء، هم: ١ - علي بن المديني.

٢ - وأحمد بن حنبل.

٣ - ويحيى بن معين، فحكموا له بالصحة والإتقان.

وعن إبراهيم الحربي قال: كان أبو عاصم -وهو: أبو عاصم النبيل، ملقب بـ النبيل - إذا حدث عن ابن جريج وغيره من أصحابه، جاء مستوياً، وإذا حدث عن سفيان أخطأ؛ لأنه لم يضبط عنه، فكان إذا أخرج المجلس -قبل أن يأتي الدرس أخرج الكتاب الذي هو عن سفيان - ووجهه إلى علي بن المديني لينظر فيه ويصلح خطأه -الشيخ يبعث بالكتاب إلى علي بن المديني، يقول: صحح لي قبل أن أحدث في المجلس.

فقال له بعض مَن قال له: لماذا توجه بكتابك إلى هذا؟ حدِّث كما سمعتَ.

قال: ففعل، وكان يخطئ في كل مجلس وعندما كان يصحح له علي بن المديني، لم يكن هناك خطأ، ولذلك كانت مكانة علي رحمه الله أحياناً ربما سببت رعباً في قلوب بعض شيوخه، ولذلك قال أحمد بن يوسف السلمي النيسابوري: سمعت عبد الرزاق يقول لـ علي بن عبد الله بن المديني حيث ودعه -الآن علي بن المديني جاء إلى اليمن وسمع من عبد الرزاق، وعبد الرزاق رأى نباهة وحفظ وجلالة علي بن المديني، ولما أراد عبد الرزاق أن يودع علي بن المديني قال له: إذا ورد حديث عني لا تعرفه، فلا تنكره، فلأني ربما لم أحدثك به.

وقال ابن أبي حاتم الرازي: سمعت هارون بن إسحاق الهمداني وذُكر له خطأ في إسناد حديث، فقال: هذا كلام أحمد بن حنبل وعلي بن المديني -كأنه يقول: هذا ليس شغلكم، أكيد أنه علمكم إياه ونبهكم على الخطأ إما أحمد بن حنبل، أو علي بن المديني.

وقال الخطيب رحمه الله مبيناً مكانة علي بين قرنائه: كان علي بن المديني فيلسوف هذه الصنعة وطبيبها، ولسان طائفة الحديث وخطيبها، رحمة الله عليه وأكرم مثواه لديه.