[أنواع كفر الجحود]
قال ابن القيم رحمه الله: وكفر الجحود نوعان: كفر مطلق عام، وكفر مقيد خاص.
فالمطلق: أن يجحد جملة ما أنزله الله، كأن يقول: كل هذه الشريعة لا تصلح، هذا تخلف، وهذه شريعة زمان مضى، والآن الناس طلعوا القمر وهذه تقال كثيراً، وتجد أصحاب الأدب المعاصر وغيرهم يصرخون: الشريعة موضة قديمة، انتهت.
فكفر الجحود نوعان: كفر مطلق عام، وكفر مقيد خاص.
فالمطلق: أن يجحد جملة ما أنزله الله، أو يجحد إرسال الرسول صلى الله عليه وسلم، يجحد السنة كلها والقرآن.
والخاص المقيد: أن يجحد فرضاً من فروض الإسلام أو تحريم محرم من محرماته أو صفة مما وصف الله بها نفسه أو خبراً أخبر الله به، عمداً أو تقديماً لقول من خالفه عليه لغرض من الأغراض كأن يأتي إنسان ويختار شيئاً من الإسلام ويقول: هذا أنكره أنا من رأيي.
أو يقول: متابعةً للشيخ الفلاني: أو لفلان الفلاني أو لأي غرض من الأغراض.
وكفر من استحل المحرمات الظاهرة المتواترة قضية خطيرة جداً كما قال القاضي عياض رحمه الله: "وكذلك أجمع المسلمون على تكفير كل من استحل القتل أو شرب الخمر أو الزنا مما حرم الله بعد علمه بتحريمه كأصحاب الإباحة من القرامطة وبعض غلاة المتصوفة ".
وقال ابن قدامة رحمه الله: "من اعتقد حل شيء أجمع على تحريمه، وظهر حكمه بين المسلمين، وزالت الشبهة فيه للنصوص الواردة فيه كلحم الخنزير والزنا وأشباه هذا مما لا خلاف فيه كفر" لكن الأئمة وإن قالوا: إن مستحل الكبائر كافر، لم يقصروا التحريم على مستحل الكبائر فقط، بل لو استحل من الصغائر ما تواتر النقل في تحريمه يكفر.
ولذلك قال صاحب نهاية المحتاج فيما يوجب الردة: أو كذَّب رسولاً أو أحل محرماً بالإجماع وقد علم تحريمه من الدين بالضرورة، ولم يجز خفاؤه علينا كالزنا واللواط وشرب الخمر، أو نفى مشروعية مجمع على مشروعيته معلوماً ولو نفلاً كالرواتب.
إنسان يعرف أن الله شرع الرواتب فليس فيها نقاش فيجحد مشروعيتها يكفر، فالآن لا تنظر قضية كبائر وصغائر، وقضية مستحبات وواجبات، قضية مبدأ: أن الله شرع هذا، شرعه مستحباً أم واجباً وحلله أم حرمه؟ في عبادة أو في قضية خبز ولحم؟ مبدأ المضادة والمعاندة لله.
وكصلاة العيد، لو أن إنساناً أنكر صلاة العيد وهو يعلم أنها مستقرة في الشريعة تماماً، ولو كانت صلاة العيد غير واجبة على قول الجمهور يكفر، كما صرح به البغوي.
ولا بد أن نعلم أن المتواتر على نوعين: أولاً: ما علمه العامة مع الخاصة كمثل كلمة التوحيد وأركان الإسلام فيكفر جاحده مطلقاً؛ لأنه قد بلغه التنزيل.
ثانياً: ما لم يعرف تواتره إلا الخاصة وهناك أحكام في المواريث نقل فيها التواتر، لكن لا يعرفها العامة، فلو أنكرها العامي وهو لا يعلم أنها متواترة فلا بد من التفريق، فقضية التكفير ليست سهلة.
وما لم يعرف تواتره إلا الخاصة، فلا يكفر مستحله من العامة؛ لأنه لم يبلغه، وإنما يكفر من استحله وهو يعلم حرمته بالضرورة، مثل: تحريم الصلاة على الحائض إلى غير ذلك من الأمثال الكثيرة فهذا بين التواتر لا يكفي وإنما لا بد أن يكون العامي أو الشخص الذي ينكر يعلم أنه متواتر، ويعلم أنه شيء مستقر في الشريعة، وليس عنده شك أنه مشروع وموجود في الدين، ولذلك أمور الإسلام الظاهرة التي يشترك في معرفتها الخاص والعام كالصلاة مثلاً فهذا من أنكرها فهو كافر.
لكن لو جاء إنسان وجحد أن بنت الابن تستحق السدس مع البنت، أو جحد تحريم نكاح المعتدة وهو لا يعرف، وهذه مجمع عليها في الشريعة ومتواترة، لكنه أنكرها، فليس بكافر.
وخلاصة ما سبق: أن من أنكر أو جحد أو كذب خبراً من الأخبار الظاهرة المتواترة كالإيمان بعذاب القبر أو بوجود الجن -وليس تلبس الجني بالإنسي، فلو قال: الجن ليسوا موجودين، أنا أنكر وجود الجن.
معناه أنه مكذب بسورة الجن وبسورة الرحمن وسورة طه، وقد قاله الله -أيضاً- في الأحقاف، إذاً: المسألة أنه يكذب بما قال الله- كالإيمان بعذاب القبر أو بوجود الجن أو برؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة ونحو ذلك، أو أنكر حكماً من الأحكام الظاهرة المتواترة، سواء كان هذا الحكم واجباً أو محرماً أو مستحباً كقضية الصلاة والزكاة وبقية الأحكام، أو وجوب بر الوالدين، وصلة الأرحام، وما يشبه ذلك، أو تحريم الخمر والسرقة والربا إلى آخره، أو أنكر سنية الوتر أو الأضحية أو السنن الرواتب إلى آخره فإنه يكفر إذا قامت عليه الحجة، ومثله من استحل محرماً من المحرمات الظاهرة المتواترة سواء كان هذا من الصغائر أو من الكبائر كاستحلال الغيبة، واستحلال النظر إلى النساء، ونحو ذاك والله أعلم.