إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد.
فمع عودة كثيرٍ من الناس إلى أعماهم ودراساتهم، أنبه وأعرض في هذه الخطبة -أيها المسلمون- إلى مفهومٍ إسلامي أصيل، وتصورٍ جاء به هذا الدين العظيم، وهو: أن طريق الدنيا والآخرة طريق واحد، وأن طريق العبد في هذه الحياة حتى ولو كان يعمل للدنيا فإنما هو ينظر إلى الآخرة؛ إذ أن التعارض بين الدنيا والآخرة والفصل بينهما صار عند كثيرٍ من الناس بأسبابٍ متعددة، إذا نظروا في أمر الإسلام والدين، ثم التفتوا إلى أمر دنياهم وأعمالهم ووظائفهم وتجارتهم ودراستهم؛ وجدوا تناقضاً وأحسوا بالإثم، ورأوا تعارضاً بين ما هم فيه من أمور الدنيا وبين القرآن والسنة، وهذا الشعور له مصادر متعددة، فقد يكون نتيجةً لتصور خاطئ، وقد يكون نتيجةً لممارسةٍ خاطئةٍ وعملٍ محرم، فالذين يعملون في المحرمات وظيفةً وتجارة ودراسة شعورهم بالتعارض بين دنياهم وآخرتهم شعور حقيقي وصحيح، ويجب أن يشعروا أن ما هم فيه من عمل الدنيا يتعارض مع الآخرة تعارضاً واضحاً لماذا؟ لأنهم يعملون في مجالاتٍ محرمة منافيةٍ للدين، وتصير أمور دنياهم في هذه الحالة مخالفةً لأحكام دينهم، فيجب على هؤلاء ترك المحرمات التي هم فيها واقعون.
ومن المسلمين طائفة ثانية تشعر بالتعارض؛ لأنه غلَّب جانب الدنيا على جانب الآخرة في الاهتمام والعمل، فشعوره -أيضاً- شعورٌ صحيح؛ لأنه غبن نفسه وفوت عليها حسناتٍ كثيرة لو حصلها لارتفع عند الله في الآخرة، ولأنه انشغل بالفاني، عن العمل للباقي، وركز جهده في هذه الحياة التي تنتهي؛ ركز فيها جهده وعمله، وجعل الفتات والفضلة من وقته لأمر الآخرة التي لا تنتهي، والتي حياتها في خلودٍ دائم فهذا مغبونٌ ومسكين؛ لأنه انشغل بما ينتهي عما لا ينتهي، وبالفاني عن الباقي، فينبغي أن يعود، ويعدل الميزان، وأن يجعل عمله للآخرة هو الأكثر.
ومن المسلمين من يرى تعارضاً بين الدنيا والآخرة لخطأ في تصور القضية طريق الدنيا وطريق الدين، فهؤلاء ينبغي أن يبصروا ويفقهوا ليزول اللبس فلا يتعذبون، وليعملوا وهم في راحة.
يصر البعض على زعم أن العبادة تتعارض مع الكسب والعمل في الصناعة والتجارة والزراعة وغيرها، وأن من أراد الآخرة فلا بد أن يطلَّق الدنيا طلاقاً باتاً حتى يصلح قلبه.