[أهمية التربية في إعطاء الناس المبادئ النظرية]
أيها الإخوة: إن التربية مهمة في إعطاء الناس المبادئ النظرية التي يستعملونها في الواقع العملي، ولكن عندما تأتي الحاجة إلى استغلال هذه المبادئ، وإلى هذه الآيات والأحاديث، فإن ضغط الواقع وحجم المصيبة قد ينسي في تلك اللحظة تلك المبادئ النظرية التي تلقيت وحاول المربي أن تستقر في النفوس.
فإذاً لا بد من إنسان يعيد إلى الذاكرة تلك المبادئ وهذه الأسس التي سبق أن أخذت مكاناً لها في الذاكرة، لماذا؟ لأن الواقع العملي يحتاج في لحظات الشدة إلى قواعد يتكئ عليها المصاب التي حدثت به المصيبة، فتذكر هذه الأشياء وإعادتها إلى الأذهان من صفات عباد الله الشاكرين الذين ثبتوا ويقومون بتثبيت الناس، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه: [[والله ما هو إلا أن تلاها أبو بكر -يعني: قوله: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ} [آل عمران:١٤٤] حتى عقرت- دهشت وبلغ بي الروع كل مأخذ- وأنا قائم، حتى خررت إلى الأرض، وأيقنت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات].
عمر رضي الله عنه وأرضاه بعظمته وسعة علمه وفقهه ما كان يصدق أنه صلى الله عليه وسلم قد مات حتى سمع الآية التي ذكره بها أبو بكر، وفي رواية: [[والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها، فعرفت أنه الحق، فعقرت حتى ما تقلني رجلاي، وحتى هويت إلى الأرض، وعرفت حين سمعته تلاها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات].
قالت عائشة: [[لقد بصَّر أبو بكر الناس في الله، وعرفهم الحق الذي عليهم، وخرجوا به يتلون: ((وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ)) [آل عمران:١٤٤]].
في المواقف الصعبة يظهر دور الشخصيات القيادية في المجتمع التي تقود الناس بالوحي يظهر أثرها في تثبيت الناس.
عظم أبو بكر الصديق حتى صار ملجأً للناس يلجئون إليه، والحادثة كشفت عن قدرة هذا الرجل وإيمانه وعمله، لم يقم بدوره عمر، ولا عثمان، ولا علي، ولا بقية الصحابة، ولذلك كان جديراً أن يكون أفضل الأمة بعد نبيها، وخليفة المسلمين بعد رحيل نبيهم صلى الله عليه وسلم.
إذاً: الحادثة تعلم كيفية التعامل مع الواقع السيء، كيفية التعامل مع الناس في أجواء الشدة وأجواء المحنة، إن الناس قد جاءوا إلى أبي بكر والتفوا حوله لما وقعت المصيبة، وذهلتهم الصدمة في الرواية الصحيحة التي رواها الترمذي وغيره، قال الراوي: [جاء أبو بكر والناس قد دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا أيها الناس! افرجوا لي، فأفرجوا له، فجاء حتى أكب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسه، فقال: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:٣٠] ثم قال الناس: يا صاحب رسول الله! أقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: نعم.
فعلموا أن قد صدق، قالوا: يا صاحب رسول الله! أيصلى على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم.
قالوا: وكيف؟ قال: يدخل قومٌ فيكبرون ويصلون ويدعون، ثم يخرجون، ثم يدخل قومٌ فيكبرون ويصلون ويدعون، ثم يخرجون حتى يدخل الناس، قالوا: يا صاحب رسول الله! أيدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم.
قالوا: أين؟ قال: في المكان الذي قبضه الله فيه، فإن الله لم يقبض روحه إلا في مكان طيب، فعلموا أن قد صدق].
كبار الصحابة والمجتمع المدني وجميع الناس يسألون رجلاً واحداً يصدرون عن رأيه وفتواه المستندة إلى العلم الشرعي، واحد ثبت الناس كلهم، واحد رجع إليه الناس وفاءوا، واحد أنقذ الناس من هول الصدمة، وعرفهم كيف يعملون، وماذا يصنعون، واحدٌ هو الذي قادهم حتى صار بعد ذلك أمر المسلمين إليه فأنقذهم، واحدٌ هو الذي قاوم الردة بأسرها، واحدٌ هو الذي كان رأيه أن يقاتل المرتدين بمللهم حتى اجتمع أمر الصحابة على ذلك.
إذاً -أيها الإخوة- المواقف هي التي تبرز الرجال، فلو شاهدت ميتاً مات في دار بعض الناس، تجد الإنسان الذي أنعم الله بالثبات، يثبت نساء الميت وأولاده وأقرباءه، ويكون هو الشعلة التي تتحرك في هول تلك الصدمة هو الذي يبصر الناس بالواجب الشرعي عليهم.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا ثابتين على الحق مثبتين لغيرنا عليه، وصلى الله على نبينا الأمي، وأستغفر الله لي ولكم.