للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[نماذج مشرقة في العفة والعفاف]

تعالوا إلى نماذج مشرقة من قصص الأولين في الصبر على الشهوة قال الله تعالى عن يوسف عليه السلام: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف:٢٣] عندما كان صادقاً أراه الله البرهان،: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ} [يوسف:٢٤] ودعا ربه فخلصه.

كم سبب ليوسف في الوقوع في الحرام؟ أولاً: رجل؛ والشهوة مركبة في الرجال للنساء، وشاب؛ وداعي الزنا عند الشاب أكبر من الصغير والكبير، وأعزب؛ وداعي الشهوة عند الأعزب أكثر من المتزوج، وغريب لا يستحي مثل ما يستحي ابن البلد الذي يخاف الفضيحة، والمرأة ذات منصب وجمال، والعزيز لا يختار في العادة إلا أجمل النساء، والمرأة ليست آبية ولا معترضة، بل هي التي دعته وألحت وقالت: هيت لك، وأسقطت كل الحواجز النفسية، ثم هو في دارها وتحت سلطانها، ثم تهددته بالسجن، ثم لا يُشك فيه لو دخل أحد؛ لأنه عبد عندها وخادم، واستعانت بكيد النسوة، وهو مملوك عندها، ودياثة الزوج سبب، ومع ذلك ما زنا يوسف ولا وقع في الحرام لماذا؟ كان يخاف الله، والله وفقه وأعانه {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف:٢٤] همه هذا هم وخاطرة، أما همها فهو فعل، وهناك فرق بين همها وهمه، ثم إن الله تعالى أعانه، فر من المعصية، استبقا الباب، شرد منها ودعا ربه واستجاب الله له، وهو صاحب دين وتقوى، ولذلك لما دخل السجن لاحظ عليه أهل السجن أنه من عباد الله المخلصين: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:٣٦].

والثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة مثال آخر، ذاك الذي هرب من الحرام لكلمة "اتق الله".

جريج العابد تعرضت له هذه الزانية المومسة وكلَّمته فأبى، فانتقمت منه لإبائه وصبر على الأذى حتى تبينت البراءة.

الربيع بن خثيم كان يغض بصره فمر به نسوة، فأطرق حتى ظن النسوة أنه أعمى، وأمر قوم امرأة ذات جمال بارع أن تتعرض للربيع بن خثيم فلعلها تفتنه، وجعلوا لها إن فعلت ألف درهم -عصابات- فلبست أحسن ما قدرت عليه وتطيبت، ثم تعرضت له حين خرج من المسجد، فأسفرت عن وجهها، فراعه ذلك المنظر، فقال لها الربيع: كيف بك لو قد نزلت الحمى بجسمك فغيرت ما أرى من لونك وبهجتك؟ أم كيف بك لو قد نزل بك ملك الموت فقطع منك حبل الوتين؟ أم كيف بك لو قد ساءلك منكر ونكير؟ فصرخت صرخةً سقطت مغشياً عليها، فوالله لقد أفاقت يوم أفاقت فبلغت من العبادة حتى ماتت يوم ماتت وإنها لجذع محترق، أثرت فيها الموعظة.

قال ابن القيم: ذكر أبو الفرج أن امرأةً جميلةً كانت في مكة وكان لها زوج، فنظرت يوماً إلى وجهها في المرآة، والمرآة والمرأة متصاحبتان، فقالت لزوجها هذه المغرورة: أترى أحداً يرى هذا الوجه ولا يفتتن به؟ قال: نعم.

وهذه مصيبة! قالت: من؟ قال: عبيد بن عمير.

قالت: فائذن لي فلأفتننه -الزوج الديوث- قال: قد أذنت لك.

فأتته كالمستفتية، دخلت المسجد وهو في ناحية المسجد، ولما اقتربت منه ظنها تستفتي، فأسفرت عن وجه كفلقة القمر، فقال: يا أمة الله، استتري.

قالت: قد افتتنت بك.

قال: إني سائلك عن شيء، فإن أنت صدقتني نظرت في أمرك.

قالت: لا تسألني عن شيء إلا صدقتك.

قال: أخبريني لو أن ملك الموت أتاك ليقبض روحك، أكان يسرك أن أقضي لك هذه الحاجة؟ قالت: اللهم لا.

قال: صدقت، قال: فلو دخلت قبرك وأُجلست للمساءلة، أكان يسرك أني قضيتها لك؟ قالت: اللهم لا.

قال: صدقت، قال: فلو أن الناس أعطوا كتبهم ولا تدرين أتخذين كتابك بيمينك أم بشمالك، أكان يسرك أني قضيتها لك؟ قالت: اللهم لا.

قال: صدقت، قال: فلو أردت الممر على الصراط ولا تدرين أتنجين أو لا تنجين، أكان يسرك أني قضيتها لك؟ قالت: اللهم لا.

قال: صدقت، قال: فلو جيء بالميزان وجيء بك فلا تدرين أيخف ميزانك أم يثقل، أكان يسرك أني قضيتها لك؟ قالت: اللهم لا، قال: صدقت، قال: اتق الله فقد أنعم الله عليك وأحسن إليك.

فرجعت إلى زوجها فقال: ما صنعت؟ قالت: أنت بطال ونحن بطالون.

فأقبلت على الصلاة والصوم والعبادة فتفرغت للعبادة وانشغلت عن الزوج، فكان زوجها يقول: ما لي ولـ عبيد بن عمير أفسد علي امرأتي، كانت في كل ليلة عروساً فصيرها راهبة.

أما عطاء بن يسار فقد خرج مع أخيه سليمان بن يسار ومع أصحابهما من المدينة، ونزلوا بـ الأبواء وضربوا الخيام، وكان هناك امرأة من الأعراب جميلة أرادت أن تفتن عطاء بن يسار الزاهد العابد، فدخلت عليه في خيمته لما ذهب أصحابه وبقي وحيداً، وكان في صلاة، فأوجز لأنه ظنها محتاجة، ثم قال: ألك حاجة؟ قالت: نعم.

قال: ما هي.

قالت: قم فأصب مني، وقد تقت ولا بعل لي.

قال: إليك عني لا تحرقيني ونفسك بالنار.

وجعل يبكي، وغشي عليه من البكاء، فرأت المرأة الرجل يبكي فتأثرت من هذا الذي وعظها وجلست تبكي، والرجل يبكي وهي تبكي، فجاء أخوه سليمان بن يسار فوجد الاثنين يبكيان ولا يدري ما القضية، فغلبته نفسه فتأثر وانخرط في البكاء، وجاء بقية أصحابهما، ودخلوا الخيمة، فرأوا عطاء يبكي، وسليمان يبكي، والمرأة تبكي، فتأثروا من المشهد، ولا يدرون ما القصة، فانخرطوا جميعاً في البكاء، وجلس الجميع يبكون ولا يدرون ما القضية! إلى أن سكنوا وهدءوا فقامت المرأة وانسحبت، وقام أولئك وانسحبوا، وآوى كل إلى فراشه تهيب سليمان أن يسأل أخاه عطاء ما السبب، ومضت الأيام، وسافرا إلى مصر، فلما ناما ليلةً بـ مصر في غرفة واحدة استيقظ عطاء يبكي، فقام سليمان على بكاء أخيه، قال: ما يبكيك يا أخي؟ فاشتد بكاؤه، قال: ما يبكيك يا أخي؟ قال: رؤيا رأيتها الليلة.

قال: وما هي؟ فأصر عليه حتى يخبره بها، فأخذ عليه عهداً من الله ألا يحدث بها في حياته، قال: رأيت يوسف النبي في النوم، فجعلت أنظر إليه، فلما رأيت حسنه بكيت -في المنام- فنظر إلي وقال: ما يبكيك أيها الرجل؟ فقلت: بأبي أنت وأمي يا نبي الله، ذكرتك وامرأة العزيز، وما ابتليت به من أمرها، وما لقيت من السجن، وفرقة يعقوب، فبكيت من ذلك، وجعلت أتعجب منه.

فقال له في المنام: فهلا تعجبت من صاحب المرأة البدوية بـ الأبواء؟ -يقول له في المنام- فعرفت الذي أراد، فبكيت واستيقظت باكياً.

وقص عليه قصة المرأة التي كانت بـ الأبواء؛ وحفظ سليمان السر، ولما مات عطاء نشره، فكانت القصة مشهورة في المدينة.

وكان سليمان بن يسار من أحسن الناس وجهاً، دخلت عليه امرأة بيته فسألته نفسه، فامتنع عليها، فقالت: إذاً أفضحك، فخرج هارباً عن منزله وترك المنزل لها.

وكان السري بن دينار بـ مصر، وفيه امرأة جميلة تفتن الناس، فجاءته وكشفت نفسها له، فقال: ما لك؟ قالت: هل لك في فراش وطيء وعيش رخي.

فأقبل عليها وهو يقول:

وكم بي معاصٍ نال منهن لذة ومات فخلاها وذاق الدواهيا

تصرم لذات المعاصي وتنقضي وتبقى تباعات المعاصي كما هيا

فوا سوءتاه والله راء وسامع لعبد بعين الله يغشى المعاصيا

أبو بكر المسكي، قيل: إن سبب تسميته بهذا الاسم أن امرأة استدرجته إلى بيتها وكان يبيع، فدخل، ثم أرادته بالحرام، فأغلقت الأبواب، ماذا يفعل؟ قال: أريد دورة المياه.

فدخل الخلاء، قيل: إنه لطخ نفسه بالقاذورات، فلما خرج قرفت منه، وفتحت الباب، ومشى، فقيل: كان رائحته مسكاً بعد ذلك.

وهذه المرأة في عهد عمر بن الخطاب، كما أن الرجال يصبرون على الحرام، كذلك النساء يصبرن، قال سعيد بن جبير: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا أمسى أخذ درته ثم طاف بـ المدينة، فإذا رأى شيئاً ينكره أنكره، فبينما هو ذات ليلة يعس إذ مر بامرأة على سطح وهي تقول:

تطاول هذا الليل واسود جانبه وأرقني ألا خليل ألاعبه

فوالله لولا الله لا رب غيره لحرك من هذا السرير جوانبه

مخافة ربي والحياء يصدني وأكرم بعلي أن تنال مراكبه

ثم تنفست الصعداء، وقالت: هان على عمر ما لقيت الليلة.

لأنه أرسل زوجها في الجهاد، فضرب باب الدار، فقالت: من هذا الذي يأتي إلى امرأة مغيبة هذه الساعة؟ قال: افتحي.

فأبت، فلما عرفت أنه عمر وجهر لها بصوته، قال: أعيدي علي ما قلتِه.

فأعادت عليه، فقال: أين زوجك؟ قالت: في بعث كذا وكذا.

فأرسل إلى الأمير فرده إلى المدينة، ثم دخل عمر على حفصة، فقال: أي بنية، كم تصبر المرأة عن زوجها؟ قالت: شهراً واثنين وثلاثة، وفي الرابع ينفد الصبر.

فجعل عمر أربعة أشهر وفي رواية: ستة أشهر الأمد النهائي، لا أحد يتغيب ويرسل للجهاد إلا ويرجعه مرةً أخرى.