[أقوال العلماء في ابن المديني]
علي بن المديني رحمه الله -كما قلنا-: هو إمامٌ في الحديث، وناقدٌ للرجال، وقد أجمعوا على جلالته وإمامته وبراعته في هذا الشأن وتقدمه على غيره، وهو من الذين استحقوا لقب أمير المؤمنين في الحديث.
وقال الذهبي في ترجمة علي بن المديني: الشيخ الإمام الحجة أمير المؤمنين في الحديث.
وقال ابن كثير رحمه الله: إن أول من تصدى للكلام في الرواة: شعبة بن الحجاج، وتبعه: يحيى بن سعيد القطان، ثم تلامذته: أحمد بن حنبل، وعلي بن المديني، ويحيى بن معين، وعمرو بن فلاس، وغيرهم.
إذاً: علي بن المديني مِن أي جيل مِن الذين تكلموا في الجرح والتعديل؟ من الجيل الثالث؛ لأن أول من بدأ بالكلام في الرواة والبحث فيهم هو: شعبة، ثم جاء بعده: يحيى بن سعيد القطان، ثم جاء بعده: تلامذة يحيى بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي، وهم: أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، وعمرو بن فلاس، وغيرهم.
وقال أبو قدامة السرخسي: سمعت علي بن المديني يقول: رأيت فيما يرى النائم كأن الثريا تدلت حتى تناولتُها -السماء ذات النجوم، الثريا نزلت إليه فأخذ منها- قال أبو قدامة: فصدَّق الله رؤياه، فقد بلغ في الحديث مبلغاً لم يبلغه أحد، كأنه صار في السماء، شأنه مرتفع جداً كأنه قد طال السماء.
وشهد له شيوخه، ومنهم: عبد الرحمن بن مهدي حيث قال: علي بن المديني أعلم الناس بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخاصةً بحديث سفيان بن عيينة.
ومن شيوخه الذي اعترفوا له وأقروا له بالفضل والإمامة: أبو عبيد القاسم بن سلام، يقول: انتهى العلم إلى أربعة: - إلى أحمد بن حنبل، وهو أفقَهُهم فيه.
- وإلى علي بن المديني، وهو أعلَمُهم به.
- وإلى يحيى بن معين، وهو أكتَبُهم له.
- وإلى أبي بكر بن أبي شيبة، وهو أحفَظُهم له.
وقال أبو عبيد أيضاً: ربانيو الحديث أربعة: - فأعلَمُهم بالحلال والحرام: أحمد بن حنبل.
- وأحسَنُهم سياقةً وأداءً له: علي بن المديني.
- وأحسَنُهم وضعاً لكتابٍ وتصنيفاً: أبو بكر بن أبي شيبة.
- وأعلَمُهم بصحيح الحديث وسقيمه: يحيى بن معين.
وكذلك ممن شهد لـ علي بن المديني: شيخه عبد الرزاق بن همام الصنعاني، فيقول رحمه الله: رحل إلينا من العراق أربعة من رؤساء الحديث: - ابن الشاذكوني، وهو أحفَظُهم للحديث.
- وابن المديني، وكان أعرَفَهم باختلافه.
- ويحيى بن معين، وكان أعلَمَهم بالرجال.
- وأحمد بن حنبل، وكان أجمَعَهم لذلك -اجتمعت في أحمد كل هذه الخصال: حفظ الحديث، ومعرفة الاختلاف والعلم بالرجال.
وكان محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله، وهو عين عيون أهل الحديث.
يقول عن علي بن المديني: كان أعلم أهل عصره.
وقال أبو حاتم الرازي: الذي كان يحسن صحيح الحديث من سقيمه وعنده تمييز ذلك ويحسن علل الحديث: أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، وبعدهم: أبو زرعة، كان يحسن ذلك، قيل له: فغير هؤلاء قال: لا.
وقال إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل بن حماد بن زيد: أفخر على الناس برجلين بـ البصرة: - أحمد بن المعذل؛ يعلمني الفقه.
- وعلي بن المديني؛ يعلمني الحديث.
وقال أبو عمرو الطالقاني: رأيتهم يقولون: الناس عندنا أربعة: - أحمد بن حنبل.
- ومحمد بن عبد الله بن نمير.
- وعلي بن المديني.
- ويحيى بن معين.
وسمعتهم يقولون: محمد بن نمير: ريحانة الكوفة.
وأحمد: قرة عين الإسلام.
وابن المديني: أعلم علماء آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وابن معين: أعلمُ بِرُواته.
وقال أبو عبد الرحمن النسائي: كأن الله خلق علي بن المديني لهذا الشأن، أي: كأن الله ما خلقه إلا للحديث.
ومدحه المشهورون من المحدثين، كـ البيهقي حين قال: علي بن المديني أحد أئمة أهل العلم بالحديث.
وقال الخطيب البغدادي، عن علي بن المديني: هو أحد أئمة الحديث في عصره، والمقدم على حُفَّاظ وقته.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الأئمة الذين أخذ الناس عنهم العلم، قال: فهؤلاء وأمثالهم أعلم بأحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال: فإن يحيى بن معين، وعلي بن المديني، ونحوهما أعرف بصحيح الحديث وسقيمه من مثل أبي عبيد، وأبي ثور.
هذه شهادة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في علي بن المديني.
وأما الحافظ أبو الحجاج المزي؛ الذي عاصر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وكان من تلاميذه، فقد قال في ابن المديني: علي بن عبد الله الإمام المبرز في هذا الشأن، صاحب التصانيف الواسعة، والمعرفة الباهرة.
كذلك الذهبي رحمه الله الذي عاصر ابن تيمية رحمه الله، قال: حافظ العصر، وقدوة أرباب هذا الشأن: أبو الحسن علي بن المديني، صاحب التصانيف.
ومدحه كذلك غيرهم من أهل العلم، كـ ابن رجب، وغيره.
وقد اجتمع بهذه المناسبة أربعة من العلماء في عصر واحد كل واحدٍ أفاد الآخرين في فنه: - المزي وابن تيمية، والذهبي، والبرزالي.
البَرْزالي: مبرزاً في التاريخ.
وكان الذهبي مبرزاً في السِّيَر والتاريخ والحديث.
والمزي: في علل الحديث والرجال لا يوجد له نظير.
وابن تيمية: في سائر الفنون.
فهؤلاء الأربعة كانوا في عصر واحد، وكل واحدٍ منهم استفاد من الآخر.
وعلي بن المديني رحمه الله كان له مجلس يعقده للناس ولطلبة العلم يأتون إليه من كل حدب وصوب، ويتسابقون إليه.
قال الخطيب البغدادي عن مجلس علي بن المديني: وقد كان خلقٌ من طلبة العلم بـ البصرة في زمن علي بن المديني يأخذون مواضعهم في مجلسه في ليلة الإملاء، ويبيتون هناك حرصاً على السماع وتخوفاً من الفوات.
وقال ابن درستوية: ما رأيت علي بن المديني يروي من كتاب قط إلا أن يُسأل أن يروي ألفاظ سفيان بن عيينة على وجهه كما سمع.
قال: وكنا نأخذ المجلس في مجلس علي بن المديني وقت العصر اليوم لمجلس غدٍ، فنقعد طوال الليل مخافة ألَّا يلحق من الغد موضعاً يُسمع فيه، أي: إذا كان الدرس غداً، جلسوا عصر اليوم والليل، ويبيتون إلى ثاني يوم حتى يأتي وقت الدرس مخافة ألا يجدوا مكاناً، فيبيتون في مجلس الدرس حتى يأتي وقت الدرس في اليوم التالي، هذا درس علي بن المديني.
وقد اتخذ علي بن المديني رحمه الله مستملياً، والمستملي هو: الذي يطلب استملاء الأحاديث من المحدِّث، ويقال: استمليتُ فلاناً الكتاب، أي: سألته أن يمليه عليَّ، وهذا الاستملاء له أدب، وقد ألف السمعاني رحمه الله كتاباً في أدب الإملاء والاستملاء.
وذات مرة اشتهى المأمون شيئاً غير الملك الذي هو فيه أن يقول للمستملي: من ذكرت يرحمك الله؟ لأن المستملي كان يجلس عند الشيخ، ويطلب منه الإملاء، ويبدأ الحديث والدرس ويقيد، فإذا أشكل عليه شيء، أو أراد استعادة شيء، قال: من ذكرت يرحمك الله؟ فالذين حول الخليفة من هؤلاء أهل المجاملات عملوا له مجموعة وأحضروا كتباً وأقلاماًَ، وقال: من ذكرت؟ لكن اتضح أن المسألة انهارت وأنها تمثيلية، وعرف أنها لا تأتي إلا لأهل العلم الحقيقيين، وأن هذا كله تصنع في تصنع.