[انكشاف أمر سراقة بعد فتح مكة وإسلامه]
فلما كانت معركة حنين بعد فتح مكة خرج سراقة ليلقى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه الكتاب، بعد سنوات، قرابة ثمان سنين لقيه بـ الجعرانة، فلما دنا منه رفع يده بالكتاب قالوا: يا رسول الله هذا كتابك، قال: يوم وفاء وبر، ادن فأسلمت، هكذا حصل لـ سراقة.
وكان عليه الصلاة والسلام قد أراد أن يبعث خالد بن الوليد إلى قوم سراقة، بعث جيشاً يُغير عليهم ويغزوهم، وكانوا مشركين، فأتاه سراقة وقال: أحب أن توادع قومي، ففيهم نزلت: {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [النساء:٩٠].
قيل: لما انكشفت القضية وصل النبي صلى الله عليه وسلم وانكشف أمر سراقة بعد ذلك لقريش، فجعل أبو جهل يلوم سراقة كيف تركهم؟!! أي: النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر؟! فقال أبا حكم! -وأبو حكم هي كنية أبو جهل -: أبا حكم واللات؛ يقسم باللات لأنه كان مشركاً في ذلك الوقت.
أبا حكم واللات لو كُنت شاهداً لأمر جوادي إذ تسيخ قوائمه
عجبت ولم تشكك بأن محمداً نبيٌ وبرهانٌ فمن ذا يكاتمه؟!
يقول: لو أنت كنت مقامي ورأيت الفرس تسيخ في الأرض ما قلت هذا الكلام.
وحصل بعد ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي عبد الله بن الزبير في الطريق مصادفة عجيبة من قدر الله عز وجل، فهذه الصحراء المترامية التقاء بقدر الله النبي صلى الله عليه وسلم والصديق بـ الزبير؛ كان راجعاً بثياب من الشام، فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وكساهما ثوبين أبيضين.
فلما مشى أبو بكر الصديق رضي الله عنه مع النبي عليه الصلاة والسلام حتى قام قائم الظهيرة -نصف النهار- رفعت لنا صخرة يقول أبو بكر، أي: ظهرت، ولها ظل، وهنا يظهر حرص الصديق على النبي صلى الله عليه وسلم وسعيه في راحته.
فبسط فروة في الظل لأجل النبي صلى الله عليه وسلم، ونفض ما حولها من الغبار حتى لا تثيره الريح فتؤذي النائم، وجهز المكان ثم ذهب حوله ينظر الطلب يحرس النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد ذلك شاهد راعياً فقال له: (أفي غنمك لبن؟ قال: نعم.
قال: أفتحلب؟ قال: نعم) وهذا الراعي كان لرجلٍ من قريش، فسأل أبو بكر الصديق الراعي عن اسم صاحب الغنم فعرفه أبو بكر الصديق؛ وكان أبو بكر نسابة يعرف العرب وأنسابها وبطونها، فعرف الرجل صاحب الغنم، وطلب من الراعي أن يحلب، فلعل الصديق قد علم أن صاحب الغنم لا يمانع ولذلك طلب من الراعي أن يحلب، فقد يكون بينهما صداقة، والصديق يعرف أن صاحب اللبن يرضى، أو على عادة العرب كانوا يوصون الرعيان بأن يحلبوا للمسافرين من الكرم.
فإما أن يكون هناك إذن عام أو أن أبا بكر الصديق يعرف الرجل هذا، فلذلك طلب اللبن، وهذا أحسن من أن يقال: إنه مال حربي يجوز أخذه لأنه مال مشرك محارب؛ لأنه لم يكن قد فُرض الجهاد ولا شُرعت الغنائم في ذلك الوقت، فمرده إلى هذا السبب، ولما كان الصديق حريصاً على صحة النبي صلى الله عليه وسلم قال للراعي: (انفض يديك، انفض الضرع، اعتقل الشاة) فاعتقل الشاة أي: وضع رجلها بين فخذيه أو ساقيه يمنعها من الحركة من أجل الحلب (فأخذت قدحاً فحلبته) أو أمر الراعي فحلب كثبةً -قدر قدح- حلبة خفيفة من اللبن، وشرب النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي هذه الرواية رواية البراء: أن سراقة جاء بعد هذه القصة، وأبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: (اشرب، قال: فشرب حتى رضيت) من الذي شرب؟ هو النبي صلى الله عليه وسلم ومن الذي رضي؟ هو أبو بكر الصديق.
(فشرب حتى رضيت) أي: أمعن في الشرب على غير عادته المألوفة صلى الله عليه وسلم حتى رضي الصديق؛ واطمأنت نفسه بأنه عليه الصلاة والسلام قد شبع وروي وأنه قد استراح.
والنبي صلى الله عليه وسلم نام وأبو بكر يحرسه، ثم لما استيقظ عليه الصلاة والسلام قال: (قد آن الرحيل يا رسول الله؟!).
وافق عليه الصلاة والسلام وانطلقا.
هذا ما حصل حتى وصلا المدينة، وخرج ذلك اليهودي لينظر فرآهما مبيضين؛ بالثياب البيض قد جاءا وعليهما الثياب البيض التي كساهما إياها الزبير: (يزول بهما السراب) أي: يزول السراب عن النظر بسبب عروضهم له، أو ظهرت حركتهم للعين، مطابقاً للوصف المذكور في الكتاب عند اليهودي، فدهش وصرخ: يا معاشر العرب! يا بني قيلة! وهي الجدة الكبرى للأنصار والدة الأوس والخزرج اسمها: قيلة.
يا بني قيلة! هذا جدكم، هذا حظكم، وصاحب دولتكم الذي تتوقعونه قد جاء، فاستقبلوا النبي صلى الله عليه وسلم إلى آخر القصة التي حدثت بعد ذلك من المجيء إلى مكان المسجد وبقية التفاصيل.