وكان الإمام أحمد رحمه الله لما كان مستغنياً عما في أيدي الناس حريصاً على أن يربي أولاده على هذا الأمر، وهذا شيء قد لا تجده في عامة المشايخ اليوم فضلاً عن عامة الناس، قد يكون الشخص قدوة لكن أهله لا يتأثرون به، ولم يقتبسوا منه هذه الأشياء الإمام أحمد رحمه الله كان حريصاً على أن يلقن أولاده مبادئ الاستغناء عن الناس.
الإمام أحمد جاءت له فرصة الأموال، وصارت تأتيه من كل حدب وصوب، وصار الناس يعطونه أشياء، حتى لما كان في وقت الشدة كانت تأتيه هدايا من أناس مخلصين، وكانوا يؤكدون له أنها من مال حلال ويقول أحدهم: هذا من إرث أبي، ويقول آخر: عندي اثنا عشر ألف درهم أعطيتك منها كذا (شيء بسيط) فكان يرفض.
ومرة كانوا يضعون له شيئاً في البيت، كصرة مال يضعها زائر خفية، فإذا اكتشفها الإمام أحمد أرجعها إليه، وإذا لم يعرف صاحبها فرقها على الفقراء، ومرة دق الباب، يقول ولد الإمام أحمد: دق الباب فتحت الباب فإذا بقصعة من الطعام مملوءة وضعها الرجل ومشى بسرعة، والإمام أحمد كان يجوع في فترات حتى لا يجد شيئاً، حتى أنه ربما اضطر إلى مواصلة الصيام، ما عنده شيء يأكله، فلما أدخل القصعة فرآها الإمام أحمد وقد امتلأت بأنواع الطعام قال: فمكث ساعة يفكر كيف يصنع؟ ثم قال: اذهبوا بهذا إلى بيت عمي، وأعطوا أولاد صالح، وكان أولاد صالح قد أتت له ذرية وكان فقيراً، فقال: وأعطوا ولد صالح هذا وهذا وزعه وما أكل منه شيئاً.
وجاءته بعد ذلك أموال في أيام المتوكل الذي رفع المحنة عن الإمام أحمد فكان يرجعها ولا يقبل منها شيئاً، ولو أدخلت عليه بالقوة فرقها.
ومرة جاءه مالٌ فرده، بعد سنة واحد من أولاده الذين عاشوا في الفقر، يقول: يا أبتِ لو أخذنا ذلك المال -يعني: لو كنا أخذنا ذلك المال الذي جاءنا قبل سنة- فقال أحمد: لو كنا أخذناه لكان الآن قد فني.
وقال صالح: قلت لأبي: إن أحمد الدورقي أعطي ألف دينار، فقال: يا بني! ورزق ربك خيرٌ وأبقى.
إذاً الإمام أحمد قدوة في تعليم الأولاد، قدوة في تربية الأهل، بعض الناس قد يكون عفيفاً متعففاً، صابراً على الشدة، لكن أهله بخلافه، وما أكثرهم! هو قد يصبر، وقد يحرم نفسه من أشياء كثيرة من متاع الحياة الدنيا، لكن أهله بخلافه لا يصبرون، فإذاً المسألة ليست أن تصبر أنت وأن تعف نفسك فقط، المسألة أن تربي من حولك وخصوصاً الأهل والأولاد على هذه الخصلة.