[مناقشة ابن مهدي لأهل البدع]
وقد حصل لـ عبد الرحمن بن مهدي -رحمه الله- قصة عجيبة تدل على ذكائه وحسن مناقشته وإقناعه، فكان ينظر من المتأثر بالمبتدعة؛ فيكلمه وينصحه في الله، ويقنعه.
وهذه القصة يرويها عبد الرحمن بن عمر الملقب بـ رسته، قال: سمعت ابن مهدي يقول لفتىً من ولد الأمير جعفر بن سليمان الهاشمي: مكانك انتظر، لا تذهب، فقعد حتى تفرق الناس.
انظر الحكمة! لا يريد أن يوبخه أمام الناس، قال: انتظر، كأنه يقول: أريدك على انفراد.
ثم قال له: يا بني! تعرف ما في هذه الكورة من الأهواء والاختلاف؟ والكورة معناها: البلد.
فيقول: أتعرف ما يوجد في هذه البلدة من الأهواء والاختلاف والبدع التي خرجت؟ ومن البدع التي كانت موجودة بدعة الجهمية، وبدعة المجسمة الذين يشبهون الله بخلقه؛ كما يُرْوَى عن مقاتل بن سليمان البلخي، قال: هاتوا أي شيء من الإنسان أشبهه لكم بالله -تعالى الله عما يقول علواً كبيراً- ولا أتحرج إلا في اثنتين: اللحية والفرج -تعالى الله عن قوله- هذه بدعة المجسمة الذين يشبهون الله بخلقه، والجهمية ينفون عن الله الصفات، وأهل السنة يثبتون لله الأسماء والصفات، لكن ليست كما للمخلوقين، وإنما على الوجه اللائق به جل وعلا.
قال له: يا بني! أتعرف ما في هذه الكورة من الأهواء والاختلاف؟ وكل ذلك يجري منك رضاً إلا أمرك، وما بلغني فإن الأمر لا يزال هيناً ما لم يصل إليكم -يعني: السلطان- فإذا صار إليكم، جل وعظُم.
يعني: يقول له: أنت سمعت بالأهواء والبدع التي حصلت في هذه الجهة من البلدان التي أنتم مسئولون عنها وأنت راضٍ ولم تغير، ولم تنكر، والأمر سهل إذا ما وصل إليكم، لكن إذا وصل إليكم، جل وعظُم؛ لأنه إذا وصل إليهم واعتقدوه حملوا الناس عليه كما فعل المأمون والمعتصم والواثق عندما حملوا الناس عليه بالقوة، أو على الأقل إذا ما أنكروه، ولا ردعوا من اعتقده؛ فإن المبتدعة سيتشجعون، وليس هناك سلطان يردعهم، ولذلك قال: فإن الأمر لا يزال هيناً ما لم يصل إليكم، فإذا صار إليكم، جلَّ وعظُم؛ لأنه سيجري تحت علمكم ومعرفتكم، فلا تنكرون، فينتشر، أو تعتقدون، فتحملون الناس عليه.
قال: يا أبا سعيد! وما ذاك؟! قال: بلغني أنك تتكلم في الرب وتصفه وتشبِّهُه، وهذا يدل على أن عبد الرحمن بن مهدي -رحمه الله- لم يكن مغفلاً ولا يدري ماذا يحدث حوله، بل كان يعرف البدع ومدى انتشارها، ومن الذي يعتقدوها، فتصل إليه الأخبار، وينصح، ويكلم.
قال: بلغني أنك تعتقد مذهب المجسمة المشبِّهة الذين يشبهون الله بخلقه.
قال الغلام: نعم يا أبا سعيد، نظرْنا، فلم نر من خلق الله شيئاً أحسن ولا أولى من الإنسان، فأخذ يتكلم في الصفة والقامة.
وقولهم: انظرنا! حجة تافهة للمجسِّمة، بأي شيء نشبه الله من مخلوقاته؟ فوجدنا أن أحسن المخلوقات هو الإنسان، فقلنا: إذاً هو يشبه الإنسان.
قال له عبد الرحمن: رويدك يا بني حتى نتكلم أولاً في المخلوق، دعنا الآن من الكلام في الخالق، لنتكلم في المخلوق، فإن عجزنا عن المخلوق، فنحن عن الخالق أعجز، تصوَّر الآن وشبِّه هذا الكلام الذي سأقوله لك وجسِّمه وهو في مخلوق، وفسِّر لي كيف يكون، أخبرني عن حديث حدثنيه شعبة، عن الشيباني، عن سعيد بن جبير، عن عبد الله في قوله تعالى: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم:١٨] أن النبي عليه الصلاة والسلام رأى في الإسراء والمعراج من آيات ربه الكبرى، قال عبد الله بن مسعود يفسر الآية: [رأى جبريلَ له ستمائة جناح] قال: شبِّه هذا؟ جبريل له ستمائة جناح، تتخيل ستمائة جناح كيف هي مركبة؟! أتستطيع أن تشبِّه هذا وتجسِّمه وتتخيَّله؟ فبقي الغلام ينظر محتاراً -فعلاً- كيف يشبِّه ستمائة جناح بشيء من المخلوقين، أو يتخيَّله، أو يأتي بمثال.
فقال له عبد الرحمن: يا بني! فإني أهوِّن عليك المسألة، وأضع عنك خمسمائة وسبعاً وتسعين جناحاً، أتنازل لك عنها، هذه لا أريدها منك، وأتنازل لك عنها، صف لي خلقاً بثلاثة أجنحة، وركِّب الجناح الثالث منه موضعاً حتى أعلم، أي: خلق له جناحين كيف يكون؟ مثلِّ وهات مثالاً على خلق له بثلاثة أجنحة، أين يكون الجناح الثالث؟ فبقي الغلام محتاراً بطبيعة الحال، وعلم أنه ضال مخطئ، قال: يا أبا سعيد! قد عجزنا عن صفة المخلوق -فعلاً- ونحن عن صفة الخالق أعجز، فأشهدك أني قد رجعت عن ذلك، وأستغفر الله.
وهذا مثال رائع للغاية، كيف كان عبد الرحمن بن مهدي يناقش ويقنع.
وكلامه -رحمه الله- في مسائل الاعتقاد كثير: وهذه طائفة منه.