بعد هذه الرحلة الطويلة يحن الإنسان إلى أهله وبلده وأقربائه، وفي الطريق مر بـ بغداد وكتب فيها شيئاً ثم عاد إلى طبرستان، عاد رجلاً آخر يختلف تماماً عن الشخص الذي خرج منها، رجع صاحب علم وتجربة وخبرة، فالأسفار تربي الشخص على أشياء كثيرة، ثم إن الترحال في هذه البلدان كما قال الشاعر:
تغرب عن الأوطان في طلب العلا وسافر ففي الأسفار خمس فوائد
تفريج هم واكتساب معيشة وعلم وآداب وصحبة ماجدِ
فلا شك أن هذه الأسفار كانت تصقل شخصيات هؤلاء العلماء، غير الفوائد العلمية الكثيرة التي كانوا يحصلونها، وهي الهدف الأساسي من الرحلة، فهنا يمكن أن يشعر الإنسان أو يشم شيئاً من فرح أهله به بعدما رجع ولدهم إليهم بهذه المنزلة العظيمة والعلوم الجليلة التي حصلها، ولما مكث بـ طبرستان فترة أشبع فيها ما حصل له من الحنين إلى أهله وبلده، رجع إلى البلد التي يمكن أن يفيد فيها الآن أكثر، وهي بغداد حاضرة العلم في ذلك الزمان، ومقصد ومهوى أفئدة كثير من طلبة العلم، فاشتهر اسمه في العلم، وشاع خبره بالفهم والتقدم، ولكنه لم ينس بلده طبرستان وأهله وأقربائه، فرجع مرة ثانية في سنة (٢٩٠هـ) فمكث قليلاً، ثم رجع إلى بغداد، وهنا حط رحاله وألقى ترحاله واستقر فيها، وانقطع عن التدريس والتأليف في بغداد إلى أن ودع الحياة.