[القاعدة الثانية: احذر خائنة الأعين]
القاعدة الثانية في مواجهة الشهوات في إدارة الصراع: احذر خائنة الأعين، قال تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:١٩] قال ابن عباس: [هو الرجل يدخل على أهل البيت بيتهم وفيهم المرأة الحسناء أو تمر به، فإذا غفلوا لحظ إليها، وإذا فطنوا غض بصره عنها، فإذا غفلوا لحظ فإذا فطنوا غض وهكذا].
قال سفيان الثوري: [الرجل يكون في المجلس في القوم يسترق النظر إلى المرأة تمر بهم، فإذا رأوه ينظر إليها اتقاهم فلم ينظر، وإن غفلوا نظر هذه خائنة الأعين].
{وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:١٩] قال: ما يجد في نفسه من الشهوة، قال العلامة الأمين الشنقيطي: فيه الوعيد لمن يخون بعينه بالنظر إلى ما لا يحل له، والعبد موقوف بين يدي الله، مسئول عن حواسه: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:٣٦] إنها النظرة، السهم المسموم، رائد الشهوة، النظر المحرم يثمر في القلب خواطر سيئة، وأفكاراً رديئة، تتطور لتصبح عزائم وإرادات وأعمال، وتأمل الآية كيف ربطت بين أول خطوات الحرام وآخره، ذلك في قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:٣٠] فيه ربط بين أول خطوات الحرام وهو النظر، وآخر ذلك وهو الوطء، قال ابن كثير: أمر الله عباده المؤمنين أن يغضوا من أبصارهم عنما حرم عليهم، فلا ينظروا إلا إلى ما أباح لهم النظر.
مشكلتنا في النظر مشكلتنا في الصور مشكلتنا في تتبع هذه الأشياء الإدمان على النظر إلى الحرام في الأسواق في المستشفيات في المكاتب الشركات على أبواب مدارس البنات في الشاشات في المجلات وهكذا، إدمان، نظر وراء نظر، والعقل يخزن في ذاكرته الصلبة، فماذا تتوقع أن تكون المستعادات إذا فتح الجهاز؟! أيها الإخوة النظر أصل عامة الحوادث التي تصيب الإنسان، النظرة ألم ما بعده ألم
كل الحوادث مبدؤها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر
لا تستهن بالنظر
كم نظرة فعلت في قلب صاحبها فعل السهام بين القوس والوتر
والعبد ما دام ذا طرف يقلبه في أعين الغيد موقوف على الخطر
يسر مقلته ما ضر مهجته لا مرحباً بسرور عاد بالضرر
يورث الحسرات والزفرات والحرقات، يرى العبد ما ليس قادراً عليه ولا صابراً عنه، وهذا من أعظم العذاب
وكنت متى أرسلت طرفك رائداً لقلبك يوماً أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر
فترى المرأة المتزوجة في الشارع تسير، وتقلب فيها النظر، فيتعلق بها القلب، ولا يستطيع الانصراف عنها ولا التقدم لخطبتها لأنها مشغولة بزوج، ولذلك يسعى كثير من الفساق إلى تطليق المعشوقات من أزواجهن، وفي هذا قصص متعددة.
ثم مرسل النظرات يقع صريعاً لها
يا ناظراً ما أقلعت لحظاته حتى تشحق بينهن قتيلاً
ومن العجب أن لحظة الناظر سهم لا يصل إلى المنظور إليه حتى يتبوأ مكاناً في قلب الناظر!
يا رامياً بسهام اللحظ مجتهداً أنت القتيل بما ترمي فلا تصب
وباعث الطرف يرتاد الشفاء له احبس رسولك لا يأتيك بالعطب
وأعجب من ذلك أن النظرة تجرح القلب جرحاً فيتبعه جرح على جرح، ثم لا تمنعه آلام الجراحة من استدعاء تكرار النظر!
ما زلت تتبع نظرة في نظرة في إثر كل مليحة ومليح
وتظن ذاك دواء جرحك وهـ ـو في التحقيق تجريح على تجريح
فذبحت طرفك باللحاظ وبالبكا فالقلب منك ذبيح أي ذبيح
حبس اللحظات أيسر من دوام الحسرات احبس نظرك أولاً أسهل من المعاناة بعدها، وتأمل في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (زنا العين النظر، وزنا اللسان المنطق، والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك كله ويكذبه) رواه البخاري تأمل التقبيح بوصف هذه النظرة للحرام بالزنا، الشارع يريد أن يكرهنا في النظرة المحرمة، فقال: (زنا العين النظر) حتى نكره النظر إلى الأشياء المحرمة، وحتى نكره النظر إلى ما حرم الله.
إن حال من ينظر إلى الحرام كحال من يشرب من ماء البحر المالح، أفتراه يروى؟ لا، بل لا يزداد مع الشرب إلا عطشاً، فهو بهذا النظر لا يزيد شهوته إلا تأججاً وشدة، بعض الناس المساكين يظنون أن النظر يخفف من غلواء الشهوة، يظنون أن متابعة النظر تسكن من آلام النفس كلا والله!
وكنت متى أرسلت طرفك رائداً لقلبك يوماً أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر
يقول ابن الجوزي: فاحذر يا أخي -وقاك الله- من شر النظر، فكم قد أهلك من عابد، وفسخ عزم زاهد، فاحذر من النظر فإنه سبب الآفات، غير أن علاجه في بدايته قريب وسهل، فإذا كرر تمكن الشر فصعب العلاج.
إنه كأس مسكر، فاحذر هذا السهم من سهام إبليس؛ في المجلات والجرائد ومواقع الإنترنت وخادمات في البيوت.
هناك نظر يقع فجأةً، نحن الآن نعيش في مجتمع فيه كثير من التبرج والسفور، وأكثر الناس ولو حرصت ليسوا بمؤمنين، وأكثر النساء ولو حرصت لسن بمتمسكات بالحجاب، يقع النظر على الصور الواقعية الموجودة التي تمشي على الأرض، وعلى الشاشات، قال عليه الصلاة والسلام لـ جرير بن عبد الله عندما سأله عن نظر الفجأة، قال: (فأمرني أن أصرف بصري) والفجأة: البغتة، أن يقع البصر على الأجنبية من غير قصد، فلا إثم في أول الأمر، لكن يجب أن يصرفه في الحال وإلا أثم، من استدام النظر عوقب (يا علي، لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى وليست لك الآخرة) حديث صحيح والإتباع: أن يعقبها إياها، لا تجعل نظرةً بعد نظرة، الأولى ليست باختيارك، فجأةً، لكن الثانية حرام عليك، وبهذا يظهر لك فساد قول بعض الهازلين اللاعبين الذين يقولون: يجوز لك استدامة النظرة الأولى ما لم ترمش العين.
وليحذر العاصي المصر على المعاصي من بطش الله وأخذه الأليم الشديد؛ لأن الذي أعطى الحواس قادر على سلبها والمعاقبة بحرمانه {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ} [الأنعام:٤٦] فهدد بهذا، فالبصر نعمة من الرب، وينبغي على العبد أن يخشى الرب ولا يصرف هذه النعمة في الحرام، استعمل النعم في شكر المنعم.
وغض البصر فيه فوائد كثيرة: امتثال أمر الرب جل وعلا يمنع وصول السهم المسموم إلى قلبك يورث قلبك أنساً بالله ولذةً لا تجدها ولا يجدها من أطلق بصره في الحرام، ويقوي القلب ويفرحه، كما أن إطلاق البصر يضعفه ويحزنه، وغض البصر يكسب البدن والقلب نوراً، كما أن إطلاق البصر يكسبه ظلمة وغض البصر يورث العبد فراسةً صادقة، ويورث القلب شجاعة، ويجمع الله لصاحبه بين سلطان البصيرة والحجة وسلطان القدرة والقوة، ويسد أبواب الشيطان، ويفرغ القلب للأفكار الصالحة، لتدبر مسائل العلم.
لو أن شخصاً دائماً ينظر ويفكر، ودائماً يتصور ويتخيل، إذا رأى امرأةً في الطريق تصورها عارية، هكذا يصور له الشيطان، كيف شكلها من تحت هذا الجلباب؟ هذا كيف يفكر في مسائل العلم؟ أو كيف يدعو إلى الله؟ أو كيف يتفكر في عيوب نفسه؟ أو كيف يفكر حتى في مصالحه الدنيوية؟ هؤلاء طلاب يذاكرون في الاختبارات ويفتحون الكتب، كيف يركزون في الفصول الدراسية؟ إذا كان كل الشغل النظر وتخزين الصور في الذهن، واستعادة المناظر، قال عليه الصلاة والسلام مبيناً المنفذ بين العين والقلب، وأن الجنة لمن صدق في غض البصر (اصدقوا إذا حدثتم، وأوفوا إذا وعدتم، وأدوا إذا اؤتمنتم، واحفظوا فروجكم، وغضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم) حديث صحيح.