للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مركبات علو الهمة]

علو الهمة مركب من عدة عناصر: منها: الجد في الأمر والإباء والترفع عن الصغائر والدنايا والطموح إلى المعالي الشرعية، لأن بعض الناس يطمحون إلى وظائف ومناصب ومستويات مادية وشرف دنيوي ومدح وثناء، فهذا ليس علواً في الهمة بل هو دنو في الهمة؛ لأنه صار ينظر إلى الدنيا، لماذا سميت بالدنيا؟ لأنها دنية سافلة.

فالذي يتطلع إلى منصب أو وظيفة لا يوصف بأنه ذو علو في همته، بل هذا همه في الدنيا، وذكرنا أنه قد يكون عنده من قوة الإرادة والشخصية ما يحقق له الغرض الذي يريده، لكن ليس له عند الله من خلاق، فإن قصد بها وجه الله صارت قضية شرعية، كمن قصد أن يحصل على الشهادة لكي يوظف ذلك في طاعة الله، أو قصد التجارة لينفق على نفسه وأهله بالمعروف وأن يتصدق وأن يدعم القضايا الإسلامية، ونحو ذلك، فهذا ممن يبتغي وجه الله، همته إرادة وجه الله، وما تاجر إلا لوجه الله، ما اكتسب إلا لوجه الله، ما درس إلا لوجه الله، فهذا عنده علو همة.

فعلو الهمة هو الجد في الأمر والإباء والترفع عن الصغائر والدنايا والطموح إلى المعالي الشرعية، وكلما عظم الهدف وسمت النفس إليه ارتفعت الهمة ووصف صاحبها بأنه عالي الهمة، وكلما هبط الهدف ودنا نزلت الهمة وحصلت الدناءة ورضي المرء بالصغائر والتوافه.

علو الهمة يقتضي أمورا: منها: الجدية في العمل وعدم التواني والكسل، إذا دعا الداعي من الله عز وجل إلى عمل تسابقوا إليه مثل حي على الصلاة فإن من علو الهمة إن كانت مطرقته رفعها ألقاها خلف ظهره ولا يطرق بها وإنما يذهب إلى الصلاة مباشرة، إذا أراد أن يبيع فأذن المؤذن لم يبع ولم يكمل التفاوض ولا المساومة وترك ذلك للصلاة، هذا من علو الهمة، عندما يستطيع الحج يحج هذا علو همة، لا يسوف ولا يؤخر، إذا قال الله: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} [التوبة:٤١] طاروا إليه رجالاً وركباناً، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ} [النساء:٧١] يعني: جماعات، {أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً} [النساء:٧١] نفير عام، الجيش كله: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ} [النساء:٧٢] ما عندهم علو همة بل عندهم ضعف إرادة فهم يثبطون.

وقلنا: إن علو الهمة وقوة الإرادة أمران مترابطان غاية الترابط وبينهما علاقة وثيقة جداً.

أصحاب الهمة الدنيئة لا يقومون إلى ما يرضي الله، وإذا دعا الداعي إلى شيء من الطاعات أحجموا وسوفوا وتكاسلوا، كما وصف الله المنافقين بقوله: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى} [النساء:١٤٢] {وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة:٥٤].

فالتكاسل والتقاعس هذا مما ينافي علو الهمة، وعكسه الجد وعدم التواني، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ بالله من العجز والكسل، فيقول: (اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل).

كما جاء في الحديث الصحيح، وهذا دعاء مهم جداً.

والإسلام يدفع المسلم إلى ابتغاء الكمالات، من التطلع للآخرة، والتطلع إلى المعالي، وإلى الأشياء العظيمة، والإسلام يصرف المسلم عن أن ينزل ببصره إلى الدنايا والتوافه والصغائر والأمور الحقيرة، خذ مثلاً على ذلك: يريد الله عز وجل من المسلم أن يرتفع بنفسه عن هذه الأرض وجواذبها ودناياها ليتطلع إلى الأمر العظيم وإلى الهمة العالية وهي طاعة الله عزوجل -العبادة- {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:٩].

فهو يريد أن تكون همة العباد إلى هذا الشيء وهو قيام الليل {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:٩]، وقال الله عزوجل: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء:٩٥] لا يستوون هؤلاء، {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [النساء:٩٥]، ثم قال: {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً * دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [النساء:٩٥ - ٩٦].

هذا المنادي من الله يدعو العباد إلى التطلع إلى هذه المعالي، ويقارن بينهم وبين الشيء العادي والشيء الدنيء، وكذلك حتى الأشياء العالية متفاوتة، فيقول: التمسوا الأعلى {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} [الحديد:١٠].

والإسلام كما أنه يحث على الارتفاع والتطلع إلى معالي الأمور مثل طاعة الله من قِبل عباده، من الجهاد، والصدقة، والصلاة، وقيام الليل، فإنه يصرف المسلم عن أن ينظر ببصره أو يتطلع ويهفو قلبه أن يركن إلى سفاسف الأمور والدنايا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب معالي الأمور وأشرافها ويكره سفسافها) وجاء الحديث بألفاظ أخرى.

والسفساف: هو الأمر الحقير والرديء من كل شيء، ومن الأمثلة على ذلك: ذم السؤال في الإسلام -الشحاذة وطلب الناس- يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اليد العليا خير من اليد السفلى) فسرها في الحديث الآخر: (اليد العليا هي المنفقة والسفلى هي السائلة).

ما يريد الإسلام من المسلمين أن يكونوا شحاذين وسُؤًّالاً يمدون أيديهم، وإنما أن يكونوا عاملين يأكلون من عمل أيديهم، وأشرف طعام يدخل جوفك ما صنعته بيدك؛ هذه سنة داود عليه السلام، وذم النبي صلى الله عليه وسلم السؤال من غير حاجة، والمكثرين من السؤال، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم عنهم: (لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله تعالى وليس في وجهه مزعة لحم)، وقال: (من سأل الناس وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خموش -أو خدوش، أو كدوح- قيل: وما الغنى يا رسول الله؟ قال: خمسون درهماً أو قيمتها من الذهب).

فإذا كان له ما يغنيه وسأل جاءت المسألة يوم القيامة في وجهه نُدَباً وآثاراً.

وقد لفت النبي صلى الله عليه وسلم نظر أصحابه إلى قضية ترك سؤال الناس بالكلية، وقال: (من يتكفل لي ألا يسأل الناس شيئاً وأتكفل له بالجنة؟ فقال ثوبان: أنا، فكان بعد ذلك لا يسأل أحداً من الناس شيئاً) وصار الصحابة رضوان الله عليهم إذا سقط السوط من يد أحدهم لا يسأل أحداً من الناس أن يناوله إياه.

وقضية علو الهمة تكون بالتطلع إلى الآخرة، والتطلع إلى طاعة الله، حتى في الدعاء، فإن الإنسان تكون همته عالية في الدعاء (إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه أعلى الجنة) وقد يقول قائل: أنا مقصر ومذنب وأعرف نفسي لا أستحق الفردوس، نقول: لكن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه أعلى الجنة).

إن الله كريم، ولا يعجزه شيء، سبحانه وتعالى وهو المنان فاسأله، وماذا يضرك؟ إن علو الهمة يكون حتى في الدعاء فيتطلع إلى الفردوس، على أن المسلم يسأل الله الفردوس، وربما بعض الناس يقول في نفسه: دعني فسوف أسأل أن أكون عند باب الجنة فقط، نقول: لا.

يقول: عندي معاصٍ، نقول: لا.

فاسأل الله الفردوس، حتى في الجنة اسأل المراتب العليا، ادع الله فربما يجيبك فتكون من الفائزين بهذه الدرجات العلى والنعيم المقيم.