خرج ربعي ليدخل على رستم، فاحتجزه الذين على القنطرة، وأرسلوا إلى رستم بمجيئه، فاستشار عظماء قومه: ما ترون أنباهي أو نتهاون؟ فأجمعوا على التباهي، فأظهروا الزبرجد، وبسطوا البسط والنمارق ولم يتركوا شيئاً، ووضع لـ رستم سريره من الذهب، ولبس زينته، ووضعت الأنماط والوسائج المنسوجة بالذهب، وأقبل ربعي على فرس ومعه سيف مصقول، وغمده لفافة ثوبٍ بالٍ، ورمحه تسلم حده بسيرٍ من جلدٍ غير مدبوغ، ومعه جحفة ترس من جلود البقر ليس فيه خشب ولا عقبٌ، على وجهها أديم أحمر مستدير مثل الرغيف، ومعه قوسه ونبله، هذه العدة ظاهرياً مهلهلة، فلما انتهى إلى رستم ووصل إلى أول البسط، قيل له: انزل، فتجاهل ذلك، وحمل فرسه على البساط، فلما وقفت عليه نزل، وربطها بوسادتين فشقهما، ثم أدخل الحبل فيهما، فلم يستطيعوا أن ينهوه، وإنما أروه التهاون، وأدرك ربعي ما أرادوا، فأراد استحراجهم، وكان على ربعي درع كأنها إضاءة، وردائه عباءة بعيره قد شقها وتدرع بها، فشدها على وسطه بشيء مما غنمه من الفرس في معاركه السابقة، وشد رأسه بعمامته، وكان أكثر العرب شعراً، وعمامته نسعة بعيره، ولرأسه أربع ظفائر قمن قياماً كأنهن قرون الوعل، فقالوا له: ضع سلاحك، فقال ربعي: إني لم آتكم فأضع سلاحي بأمركم، أنتم دعوتموني فإن أبيتم أن آتيكم إلا كما أريد وإلا رجعت، فأخبروا رستم، فقال رستم: آذنوا له هل هو إلا رجل واحد؟ وأقبل ربعي يتوكأ على رمحه يقارب الخطو ويزج النمارق والبسط بزج رمحه، فما ترك لهم نمرقة ولا بساطاً إلا أفسده، وتركه منتهكاً مخرقاً، فلما دنا من رستم، تعلق به الحرس، فجلس على الأرض وركز رمحه بالبسط، قالوا: ما حملك على هذا؟ قال: إنا لا نستحب القعود على زينتكم هذه، فقال رستم: ما جاء بكم؟ قال ربعي: الله ابتعثنا والله جاء بنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل منا ذلك قبلنا ذلك منه، ورجعنا عنه، وتركناه وأرضه يليها دوننا، ومن أبى قاتلناه أبداً حتى نفضي إلى موعود الله، قال رستم: وما موعود الله؟ قال ربعي: الجنة لمن مات على قتال من أبى، والظفر لمن بقي، قال رستم: قد سمعت مقالتكم فهل لكم أن تؤخروا هذا الأمر حتى ننظر فيه وتنظروا؟ قال ربعي: نعم، كم أحب إليكم أيوماً أم يومين؟ فقال رستم: لا، بل حتى نكاتب أهل رأينا ورؤساء قومنا، وأراد مقاربته ومدافعته يطول الوقت، قال ربعي: إن مما سن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمل به أئمتنا ألا نمكن العدو ولا نؤجلهم عند اللقاء أكثر من ثلاث، فنحن مترددون عنكم ثلاثاً، فانظر في أمرك وأمرهم، واختر واحدة من ثلاثٍ بعد الأجل: اختر الإسلام وندعك وأرضك، أو الجزاء -الجزية- فنقبل ونكف عنك، وإن كنت عن نصرنا غنياً تركناك منه وإن كنت إليه محتاجاً منعناك، أو المنابذة في اليوم الرابع، ولسنا نبدؤك فيما بيننا وبين اليوم الرابع إلا أن تبدأنا، أنا كفيل لك بذلك على أصحابي وعلى جميع من ترى، فقال رستم: أسيدهم أنت؟ قال ربعي: لا، ولكن المسلمين كالجسد الواحد، بعضهم من بعض يجير أدناهم أعلاهم، فانفرد رستم برؤساء أهل فارس وتشاور معهم في شأن هذا الأعرابي العجيب، فأقبلوا إليه يتناولون سلاحه ويعاينونه ويزهدونه فيه، فقال ربعي: هل لكم إلى أن تروني وأريكم، فأخرج سيفه من خرقة كأنه شعلة نار، مع عزم السحب كأنه انقدح منه النار، فقالوا له: أغمده فغمده، ثم وضعوا له ترساً ووضع لهم حجفته فرمى ترسهم بسهمٍ فخرقه، ورموا حجفته بسهمٍ فسلمت، فقال ربعي: يأهل فارس! إنكم عظمتم الطعام واللباس والشراب وإنا صغرناهن، ثم تركهم ورجع إلى معسكره إلى أن ينظروا إلى الأجل الذي منحه لهم ثلاثة أيام.
هذا رجل -أيها الإخوة- من أين أتى؟ ومن أين ظهر؟ وكيف حصل منه هذا الموقف؟ هل ظهر من فراغ؟ هل قال ما قال دون أن يكون هناك أساسٌ في نفسه لما يقول؟ وكيف صارت عنده هذه العزة والقوة والجرأة والشجاعة؟ لا يمكن، لا بد أن يكون هناك أوصاف وقدوات يتربى فيها أمثال ربعي بن عامر ليخرج بذلك الحق الجلي الذي يوضحه.