عاشراً: مراعاة الأحوال
لا بد أن تكون العلاقة قائمة بين هذا المدعو والداعية على مراعاة الأحوال، والأحوال تختلف اختلافاً كبيراً، فالأمر يختلف إذا كان هذا الداعية طالباً والمدعو طالباً، ويختلف إذا كان الداعية مدرساً والمدعو طالباً أو العكس، ويختلف إذا كان الداعية موظفاً والمدعو مدير والعكس، ويختلف إذا كان الداعية يعمل في الطب والمدعو مريضاً أو العكس، ويختلف إذا كان الداعية طياراً أو مضيف طائرة أو العكس، ويختلف إذا كان الداعية مثلاً نقيباً في السلك العسكري والمدعو رائداً أو العكس، ويختلف إذا كان الداعية نقيب والمدعو عقيداً أو عميداً أو لواءً ونحو ذلك من الرتب، وكلما تباعدت الرتب صعب الأمر من الأسفل إلى الأعلى وسهل من الأعلى إلى الأسفل.
فإذا كان نقيباً يدعو رائداً فهو أسهل من نقيب يدعو مقدماً أو يدعو عميداً أو عقيداً، وبالعكس إذا كان عميد يدعو نقيباً فهو أسهل من دعوته لشخص قريب من رتبته، وهكذا، وكذلك يختلف الوضع إذا كان الداعية قريباً للمدعو أو الداعية غريباً عن المدعو.
الواحد يمكن أن يدخل مع ناس من أقربائه بشيء من التقدم السريع لأنه لا يحتاج إلى أن يتعرف عليه لأنه يعرفه منذ سنوات وبينهما صلة رحم ووشائج قربى، وعلى العموم فإن الدعوة تكون أسهل إذا كان الداعية في الرتب الدنيوية أعلى من المدعو، وتكون أصعب إذا كان الداعية في الرتب الدنيوية أنزل من المدعو، وهذه المسألة تحتاج إلى مراعاة أحوال، وفيها مراعاة حال كبيرة.
وفي بعض المهن أو بعض الوظائف يكون صاحبها أسهل في المهمة الدعوية، فالطبيب مثلاً يسهل عليه أن يدعو جميع طبقات المجتمع، لأنه إنسان يحتاج إليه الكل، وإذا مرضوا ما عاد يميز بين الراتب، فهذا طبيب الناس يستوون عنده في المسألة الآن، ولذلك كان المنصرون يعتمدون على الأطباء في نشر دعوتهم الكفرية الإلحادية أكثر من غيرهم، ولذلك تسمع الآن عن بعض الجمعيات مثلاً: جمعية أطباء بلا حدود، هذه جمعية عالمية مشهورة جداً فرنسية تبشيرية، لها ميزانية ومعتمدات ومخصصات وتبرعات تأتيها من جميع أنحاء العالم، تكون فرقاً وتعبر الحدود، أطباء بلا حدود.
وكذلك رجل الأعمال (التاجر) له مكانة مرموقة في المجتمع، تصور لو أن رجلاً مثل هذا هداه الله عز وجل، فهذا يؤثر على غيره تأثيراً كبيراً لأن عنده من الموظفين والعمال والمستخدمين تحته ما يستطيع أن يؤثر على طوائف وأمم من الناس.
وبعض الناس من أصحاب المراكز إذا هداهم الله وأصبحوا دعاة سمع لهم الناس أكثر، وهكذا.
فمراعاة الأحوال إذاً بين الداعية والمدعو في الأمور الدنيوية من الأشياء المهمة.
ومن مراعاة الأحوال كذلك: العوامل التي تتحكم في لهجة الخطاب ونوع الكلام، هناك أشياء تتحكم في لهجة الخطاب، وهي أنواع المدعوين، فهناك فرق بينما إذا كنت تخاطب وتدعو ملحداً، وما إذا كنت تدعو رجلاً من أهل الكتاب، وما إذا كنت تدعو رجلاً من ديانات أخرى كـ البوذية مثلاً والهندوسية، وفرق أن تدعو رجلاً مرتداً عن الدين، وفرق أن تدعو رجلاً منافقاً أو علمانياً، أو تدعو رجلاً من عصاة المسلمين أو تدعو رجلاً من عامة المسلمين.
فإذن الناس يتفاوتون، وهذا التفاوت ينبغي أن ينعكس على العلاقة بين الداعية والمدعو؛ لأنه لا يمكن أن نخاطب المرتد مثلما نخاطب رجلاً من عامة المسلمين، لا يمكن أن نخاطب منافقاً علمانياً مثلما نخاطب رجلاً من عصاة المسلمين، وهكذا.
وهذا الأمر إذن ينعكس على لهجة الخطاب ونوع الكلام.
من مراعاة الأحوال: تقدير المستوى العقلي للمدعو، أو الانشغال العائلي، أو العامل النفسي، فقد يكون هذا المدعو رجلاً يحب العزلة أو امرأة تحب العزلة، فيريد الداعية أن يضعه في وسط اجتماعي بالقوة، وأن يجعله منفتحاً، وأن يجعله منسجماً مع الوسط، وأن يجعله، وهذا الإنسان ليس متعوداً على مخالطة هذا العدد الكبير من الناس، وفتحه بالقوة بهذه الطريقة سيسبب مشاكل كثيرة، وبعض الدعاة قد يتعسف في التداخل والدخول مع المدعو لدرجة تشعر المدعو بالنفور، وفي الصباح يلتقي المدعوون في فصولهم الدراسية وفي الفسحة يتجاذبون أطراف الحديث، ويحكي كل منهم معاناته من الداعية الملازم له، فقال أحدهم يوماً: ألا تعلمون ما فعل صاحبي معي في الليلة الماضية، قالوا: ماذا فعل؟ قال: لقد نام عندي، يا للهول! جاء ونام عندي، هذا إنسان غير متعود أن يظهر أمام الناس بثوب النوم أبداً، لابد أن يظهر (بالسكفة) الكاملة، فالآن عندما جاء هذا الرجل وزاره، وقال: الوقت تأخر ما رأيك أنام عندك، وهو إنسان غير متعود أن ينام عند الناس ولا الناس ينامون عنده.
وهذا صاحبنا الداعية يريد أن يتداخل بأسرع وقت فيحدث بعد ذلك مثل هذه الأمور المضحكة، ومن مراعاة الحال في علاقة المدعو بالداعية: أن يراعي الداعية حجم العائلة عند المدعو، ونوع العمل ووقت الدوام، فلا يطلب منه ما يشق عليه ولا يطلب من المدعو الموظف مثلاً دواماً قصيراً مثلما يطلب من الموظف دواماً طويلاً، أو مثل الذي يعمل في نوبات ونحو ذلك، ولابد من مراعاة صعوبة الدراسة، فإن الطالب في دراسة معينة في تخصص معين لا يكون عليه من الصعوبة في الدراسة مثلما عند الآخر، وكذلك لا بد من مراعاة المستوى الذهني والفروق العقلية، وظروف الشخص، قد يكون عنده اختبارات في المدرسة، أو أعمال وانتدابات وجهد شاق في عمله، فعدم المراعاة تأتي بالنتائج العكسية.
حكي أن مدعواً كان يتعامل مع الداعية من نافذة الحجرة، أو من شرفة المنزل، أو من سماعة جرس الباب، والسبب أن الداعية لم يكن يعلم كيف يتعامل مع هذا الشخص وكيف يراعي ظروفه، فلما أثقل عليه وجد أن الرجل بسببه ستضيع الدراسة والمستقبل، وصار إذا جاءه أحد يصرفه من النافذة أو يكتب له على الباب ممنوع الإزعاج.
ومن الأشياء كذلك مراعاة الأحوال: مراعاة الطبائع والعادات، مراعاة العادات القبلية والفروق في المناطق التي يتجمع منها الأشخاص ويأتون.
وخذ على سبيل المثال: لو أن رجلاً يريد أن يدعو في أهل البادية، فأهل البادية إن لم تكن فقيهاً في الأعراف وقعت في إشكالات، فمثلاً بعض الناس لو أنك سكبت له باليسار فإنها تعتبر عنده طامة كبرى، أو مثلاً لقيته ظهرك في المجلس، فهذه تعتبر مصيبة عظمى، أو مثلاً لو تخطيته في فنجان فأعطيت من قبله ومن بعده ولم تعطه لعدها من الأشياء القاصمة للظهر.
وحتى المرأة مع زوجها إذا أرادت أن تدعو زوجها فلابد أن تراعي الفروق بين أن تكون الداعية هي الزوجة أو الزوج، لأن هذه أيضاً تفرق في مسألة الدعوة، بعض الناس عندهم من العادات أو يعتقدون أن المرأة إذا تخطت فوق الرجل وهو مستلقٍ معنى ذلك انقطع نسله، ولذلك يقوم عليها ويمكن أن يضربها ضرباً مبرحاً، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يراعي عادات القبائل، وأحياناً تجد في بعض النصوص من كلام القبائل اليمانية، وكلام من قبائل نجد، وكلام من قبائل حبشية فكان الرسول عليه الصلاة والسلام يراعي ذلك ويراعي عادات القوم.
وطبعاً لا بد للداعية أن يكون على شيء يقبله الناس سواء في هندامه أو نظافته أو طيبه، فلا يكون له رائحة كريهة ولا تقعر في الكلام، ولا هندام سيئ وعدم اهتمام بالنظافة، والرسول صلى الله عليه وسلم قد حبب إليه من دنيانا الطيب.