[الرياء]
ومن المفسدات التي سنذكرها في هذه الليلة أخيراً: الرياء.
والرياء هو عمل الشيء لكي يراك الناس والرياء: هو أن ترائي بعملك، (من راءى، راءى الله به) من فعل ليراه الناس، راءى الله به (ومن سمَّع سمَّع الله به) من فعل وأخبر الناس أني عملت وعملت، هذا اسمه تسميع، وهذا الفرق بين الرياء والتسميع، الرياء أن تعمل ليراك الناس، والتسميع أن تخبر الناس بما فعلت، ليسمعوا بك وبفعلك: (ومن سمع سمع الله به).
وإذا فضح الله إنساناً يوم القيامة، فالويل له مما قدمت يداه، فالرياء مفسد للعمل، وإذا كان العمل متصلاً ومبنياً أوله على آخره، وإن طرأ عليه الرياء ولم يدافعه فإن العمل يفسد ولا بد من إعادته كالصلاة المفروضة، وأما لو كان العمل منفصلاً وراءى في جزء منه أو في شيء منه، كمن تصدق بمائة ريال، وراءى فيها ثم تصدق بمائة أخرى ولم يرائِ فيها فليتصدق، فالتي تصدق ولم يراءِ فيها فهي مقبولة، والتي راءى فيها فهي مردودة، إلا أن يتوب إلى الله من هذا الرياء، فإنها تقبل إن شاء الله.
والرياء محرم، وليس فقط محبطاً للعمل، وإنما يترتب عليه إثم، لو أن قائلاً قال لك: الرياء فقط يبطل العمل، نقول: لا.
إنه يبطل العمل وتأثم أيضاً زيادة على بطلان العمل، تأثم لو أنت تصدقت رياء أمام الناس وأخرجت مائة ريال وجعلت تفرك بها وترفع وتخفض، هذا ليس فقط يحبط عمل المائة أنه ليس لك أجر عليها، ولكن أيضاً تأثم بفعل ذلك والدليل أن أول من تسعر بهم النار يوم القيامة، ثلاثة: (متصدق وقارئ ومجاهد) وكما ورد في الاختلاف بحسب اختلاف الروايات، أول من تسعر بهم النار يوم القيامة ثلاثة: (أولئك خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة، يا أبا هريرة).
فالرياء لا شك أنه من مفسدات القلوب وهو شرك، والله لا يغفر أن يشرك به، ولا بد من توبة مخصوصة له، فبقية الذنوب لو عمل الإنسان حسنات فإنها تمحو بها السيئات، لكن الشرك لا يغفره الله إلا بتوبة، فلا بد أن تتوب له، ولأجل كثرة أنواع الشرك، وصعوبة متابعة الإنسان لكل شرك بتوبة، علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاء، فقال: (اللهم أني أعوذ بك أن أشرك بك شيئاً أعلمه وأستغفرك لما لا أعلمه).
لأنك قد تكون وقعت في الشرك، فتقول بذمتك، وهذا شرك، وهذا أبسط الأشياء، فقولك: (بذمتك صار كذا)، فإذاً ينبغي الحذر من الشرك بجميع أنواعه وقد رجح شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:٤٨] أنه داخل في الشرك الأكبر والأصغر.
وما هو الحل والعلاج من الرياء؟ علاجات الرياء أشياء كثيرة جداً: منها: محاولة إخفاء العمل على الدوام، وألا يجر ذلك إلى التقاعس، وهناك أشياء لا تخفى كصلاة الجمعة والجماعة، أن تأتي بقناع إلى المسجد، فهذا لا بد من الظهور فيه، لكن الصدقة قد تخفيها إلا إذا ترتبت مصلحة كبرى من إظهارها، مثل ما فعل الرجل، (وجعل الرجل يأتي بصرة حتى كادت كفه تعجز عنها، ثم تتابع الناس فكان قدوة للآخرين) هذا فيه مصلحة شرعية.
وإلا الأصل إخفاء الصدقات، وهكذا الحرص على إخفاء العمل وبالذات الأشياء التي ليس من السنة إظهارها، كقيام الليل، ثم إن الإنسان إذا أدى العمل فيراقب نفسه قبل أدائه، لأنه سيعمله لله، لأن العبد لا تزول قدمه يوم القيامة حتى يسأل عما عمل في حياته، لِمَ عملته وكيف عملته، أهو موافق للسنة؟ أهو لله أو لغير الله؟ {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر:٩٢ - ٩٣] {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف:٦].
كذلك احتقار العمل فهناك شيء مهم جداً وهو أن الإنسان مهما عمل من الصالحات فعليه أن يحتقر العمل، ويقول بينه وبين نفسه أن ما عمله حقير وأنه لا شيء بالنسبة لما هو مطلوب منه، ولو صلى كذا وكذا ركعة، وأنفق كذا وكذا من المبالغ الطائلة فإنه لا شيء بالنسبة لحق الله عليه، ينبغي أن يشعر أنه ما عمل شيئاً وأنه لعله ينجو: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:٦٠] يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة: الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف ألا يقبل منه، يخاف ألا يقبل منه، يرجو الله أن يقبل، ويخشى من ألا يقبل منه فهو معلق بين الخوف والرجاء.
ومن العلاجات: أن يكون اهتمامه بتصحيح العمل أهم من العمل نفسه، الآن مثلاً: أنت تصلي وتحرص على إتمام الصلاة، وأن تجعل ظهرك ليس للأعلى ولا للأسفل وأنه مستوٍ، وأنك تحرص على ضم اليدين عند السجود، وأن تستقبل به القبلة عند السجود وإذا رفعت، فلا هي مضمومة ولا هي مفرقة بين بين، وأنها مبسوطة وأنها حيال المنكبين، أو الأذنين، أو أنها على صدرك، أو بين الثديين كما قال أهل العلم، وأنك تشير بالأصبع وأنت تحرص على تصحيح صورة العمل، هذا ممتاز ومهم جداً، لكن ما هو الأهم منه؟ إنه تصحيح العمل نفسه، أي أن يكون العمل لله، أهم من تصحيح صورة العمل، وكلا الصورتين مهمة، الأولى: تتعلق بالإخلاص، والثانية: تتعلق بمتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم.
والأمر الآخر: محاسبة النفس، هل راءيت فتتوب إلى الله، وما فعلته لله، هل قمت به لأجل الله أو لأجل فلان؟ مددت يدي لله، أو لأجل فلان؟ إن ترك المحاسبة والاسترسال وتسهيل الأمور وتمشيتها يؤدي إلى الهلاك، قال الله عز وجل: {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ} [الأحزاب:٨].
فإذا سئل الصادقون فما بالك بغيرهم، يسأل الصادقون عن صدقهم، فما بالك بغيرهم، فما بالك بالكاذبين، والتأمل في حال السلف من العلاجات، كيف كانوا يخفون أعمالهم، كيف كانوا يحتقرون أعمالهم، قال: محمد بن واسع -انظر هؤلاء سلف وكبار، وجهابذة، وعباد وصلحاء- يقول محمد بن واسع: "لو كان للذنوب ريح ما قدر أحد أن يجلس إلي من أهل الأرض".
وقال أيوب السختياني: "إذا ذكر الصالحون، كنت عنهم بمعزل" أنا لا أعد نفسي من هذه الزمرة، هم أعلى وأنا أدنى من ذلك، وكان عمر يقول: [اللهم اغفر لي ظلمي وكفري، فقالوا: يا أمير المؤمنين! هذا ظلم، فما بال الكفر، قال: قال الله عز وجل: ((إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ)) [إبراهيم:٣٤]] كفر النعمة، إن أسهل شيء يقع فيه الناس كفر النعمة وقال يونس بن عبيد: "إني لأجد مائة خصلة من خصال الخير ما أعلم أن في نفسي منها واحدة".
وكذلك فإن محاسبة النفس بأن ينظر العبد في حق الله عليه أولاً، ثم ينظر هل قام به كما ينبغي، ينظر في حق الله، ماذا يجب عليه لله ثانياً وهذا يؤدي إلى ترك الإعجاب بالعمل، لأن من الأشياء السيئة أن يعجب الإنسان بعمله، ويشعر أنه عبد الله كما ينبغي فيقول: اليوم أنا عبادتي كاملة، والعجب بالعمل مصيبة، لذلك يقال في الآثار: لو أن عبداً عبد الله كذا وكذا سنة، ثم شعر بأنه احتقر عمله، فلحظة الاحتقار قد تكون أعلى وأكمل من كذا وكذا سنة عبادة، لأن العبادة قد تشعر الإنسان بالعجب، وإذا شعر بأنها قليل، وأنه لم يعمل شيئاً بالنسبة لحق الله، ولا بد من المزيد، يجتهد في العمل، وذكر الإمام أحمد عن بعض أهل العلم أن رجلاً قال لأحد أهل العلم: إني لأقوم في صلاتي فأبكي حتى يكاد البقل ينبت من دموعي، فقال: "إنك إن تضحك وأنت تعترف لله بخطيئتك، خير لك من أن تبكي وأنت تدل بعملك".
وهذه قصة لطيفة وجميلة نختم بها كلامنا، ذكرها ابن القيم رحمه الله في إغاثة اللهفان يقول: عن جعفر بن زيد قال: خرجنا في غزاة إلى كابول، -تصور، المسلمون وصلوا إلى كابول منذ قديم الزمان- خرجنا في غزاة إلى كابول وفي الجيش صلة بن أشيم وكان أحد الصالحين، فنزل الناس عند العتمة، فصلوا، ثم اضطجع هو فقلت: لأرمقن عمله فأنظر ماذا يصنع هذه الليلة، فالتمس غفلة الناس - الناس ناموا وغفلوا- حتى إذا قلت هدأت العيون وثب، فدخل غيضة - مكان ملتف بالأشجار وخفي- قريباً منا ودخلت على إثره، فتوضأ ثم قام يصلي وجاء أسد - من أسود الغابة الموجودة- وجاء أسد حتى دنا منه، فصعدت في شجرة -المراقب خاف- قال جعفر بن زيد: فتراه التفت أو عده جرواً فلما سجد قلت: الآن يفترسه، فجلس من السجود ثم سلم، ثم قال: أيها السبع! اطلب الرزق من مكان آخر، فولى وإن له لزئير، تصدع الجبال منه، قال: فما زال ذلك يصلي حتى كان عند الصبح جلس - لما صار قريباً من الصبح - فحمد الله بمحامد ثم قال: اللهم إني أسألك أن تجيرني من النار، فمثلي لا يجترئ أن يسألك الجنة -طبعاً هذا تواضع من العبد، وذلة بين يدي الله، لكن هذا لا يعني أن الإنسان لا يسأل الله عز وجل الجنة بل الرسول صلى الله عليه وسلم علمنا أن نسأل الله الفردوس الأعلى، لكن في بعض الأحيان، قد يكون العبد فيه تواضع وذلة بين يدي الله لدرجة أنه يقول: مثل هذا الكلام تعبيراً عن تواضعه- قال: ثم رجع وأصبح كأنه بات على الحشايا، وأصبحت وبي من الفزع شيء الله به عالم.
فكانوا هكذا يخفون أعمالهم، هكذا يعبدون الله، وهكذا يحتقرون الأعمال، ولأجل ذلك نصرهم الله سبحانه وتعالى وأيدهم، وجعلهم فاتحين، وقدوة للأمم والعالم.